أولويات الإدارة الوطنية

كتب م. هاشم نايل المجالي في صحيفة الدستور.
تعتبر صناعة الاستراتيجية الشاملة في أي دولة حديثة لحظة وعي سياسي واجتماعي وثقافي مؤسسي، تتجاوز حدود التخطيط التقليدي الذي اعتدنا عليه منذ سنوات طويلة، وذلك إلى إعادة اكتشاف الذات الوطنية بكامل مكوناتها، حيث إن الدولة لا تُبنى فقط بالقوانين والمؤسسات، بل تُبنى قبل ذلك كله برؤية تعبر عن روحها العميقة وطموحاتها التاريخية ومدى قدرتها على التكيف مع عالم متغير يتسارع فيه الزمن، وتتداخل فيه القوة بالمعرفة، والاقتصاد بالسياسة، والهوية بالأمن الوطني.
فصناعة الاستراتيجية هي فعل تأسيسي يعيد ترتيب العلاقة بين الدولة ومجتمعها وبيئتها الداخلية والخارجية، ويحوّل الإمكانات والقدرات المبعثرة والمتناثرة هنا وهناك إلى مشروع وطني متكامل يشمل الاقتصاد والأمن المجتمعي والأمن الداخلي والثقافة والتعليم والصحة والطاقة والعلاقات المجتمعية.
وكما نعلم، فإن السؤال الرئيسي لصناعة أي استراتيجية يبدأ بالسؤال الرئيسي وهو: ماذا تريد الدولة أن تكون؟ وهو سؤال الهوية والغاية والهدف، حيث تتولد منه الرؤية بعيدة المدى نحو مستقبل بعيد، وهي رؤية تعبر عن الطموح الوطني الشامل في الحضارة والازدهار والتطور والتنمية والكرامة والعدالة المجتمعية.
حيث تأتي لحظة التحليل المنطقي والموضوعي من قبل كافة المعنيين من كافة الجهات: حكومية ونيابية وعينية وقطاع خاص ومجتمعي، نحو دراسة الفرص الممكنة ومواجهة التحديات الخارجية في عالم مضطرب كله أزمات وحروب وصراعات داخلية وخارجية، وتحليل أصحاب الأجندات والمصالح الداخلية على حساب المصلحة الوطنية، حيث يتم قراءة كافة الاتجاهات وبناء السيناريوهات الداخلية والمستقبلية، ومن خلالها تختبر بها الدولة القدرة على الصمود والتقدم ومواجهة التحديات المختلفة والمحتملة.
وحيث إن هذا التشخيص الوطني لا يهدف فقط إلى معرفة ما هي المقدرات الوطنية الموجودة، بل إلى كشف ومعرفة ما هو غائب أيضاً، وما يجب أن يتم تغييره أو بناؤه من جديد، حيث يتم تحويل هذه الرؤية الشمولية والاستراتيجية إلى منظومة متكاملة من الخيارات في كافة المجالات، باستراتيجية تتوزع على كافة الميادين المجتمعية المختلفة، حيث يتم صياغة أهداف قابلة للتقييم والقياس بمؤشرات أداء دقيقة وجداول زمنية واضحة المعالم تتواءم مع الموازنات العامة للدولة والموارد المتاحة.
فنجاح أي استراتيجية لا يقاس بما تحتويه من أفكار عظيمة، بل بمدى قابلية هذه الأفكار للتحقيق والتطبيق على أرض الواقع، وبمدى قدرة مؤسسات الدولة وشركائها على تنفيذها بكفاءة.
هذا هو المشروع السياسي المتكامل بهيئة وطنية وإدارات فعّالة تدير وتشرف على ذلك كله في كافة المناطق، وتحقق توازناً بين طموح الحاضر نحو المستقبل تحت قيادة واعية قادرة على إقناع المجتمع بأن التغيير ضرورة وليس ترفاً، والفهم المشترك للمجتمع المدني لهذه الأهداف ودعمها.
فلا تنجح أي رؤية وطنية إذا بقيت حبيسة المكاتب والأدراج أو حكراً على النخب السياسية أو الحزبية، فالمشاركة شرط أساسي بمنح تطبيق هذه الاستراتيجية شرعية مجتمعية تُضفي قوة الدفع الشعبي المجتمعي.




