إمبراطورية الظلّ الإيرانية في العراق

كتب إياد الدليمي في صحيفة العربي الجديد.
منذ انهيار نظام الشاه في إيران، وتولّي الإسلاميين الشيعة سُدّة الحكم عام 1979، لم يغب حلم إحياء الإمبراطورية الفارسية من أذهانهم. هذا الحلم، امتداد لأفكار إيران الشاهنشاهية، وإن تغيّرت مظاهرها وبدّلت جلدها، فالهدف المنشود واحد: إعادة أمجاد إمبراطورية فارس. ليس هذا تأويلاً أو تجنّياً على أحد، بقدر ما هو حقيقة أدركها كل من تابع نشاط إيران الإسلامية منذ ثورتها حتى اليوم. فهي دولة تجيد اللعب على المتناقضات، تعرف متى تتقدّم ومتى تحجم، حتى أضحت قوةً إقليميةً يُحسب لها ألف حساب.
وقد بلغت هذه القوة ذروتها مع اللحظة الفارقة المتمثّلة في فرض عقوبات دولية جديدة على إيران قبل نحو أسبوع، وما قد تجرّه هذه العقوبات من تداعيات على واقع الحياة في إيران، التي تعاني أصلاً من شحّ الإمكانات بفعل سنوات من العقوبات الأميركية. لإيران منفذ على العالم، حتى مع فرض العقوبات، وبدأت الدول التعاطي معها أمراً واقعاً. ففي العراق متّسع للالتفاف على هذه العقوبات، عبر إمبراطورية ظلّ إيرانية بنتها طهران في مدار عقدَين، نجحت من خلالها في أن تكون صاحبة اليد الطولى في عديد من مفاصل الدولة العراقية، ما ساعدها خلال سنوات العقوبات الأميركية في أن يكون العراق منفذها إلى العالم.
تملك إيران في العراق أوراقاً عديدة، وتراه خطّ دفاعها الأول في أيّ حرب مقبلة
خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية، في ثمانينيّات القرن الماضي، كانت إيران ترعى على مهل آلافاً من العراقيين المعارضين لنظام صدّام حسين، فشكّلت منهم أحزاباً ومليشيات، ودرّبت وسلّحت عديدين منهم. كادت تلك القوى المعارضة أن تنجح في الانقضاض على السلطة عقب حرب تحرير الكويت عام 1991، حين دفعت بهم إيران، رفقة وحدات من الحرس الثوري، إلى مدن جنوبي العراق، وسيطرت على عدّة مناطق قبل أن تشنّ القوات العراقية حملةً واسعةً لملاحقة تلك المليشيات ووحدات الحرس الثوري، وتستعيد السيطرة. وعقب الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وجدت إيران في هذا الغزو ضالّتها لتحقيق ما عجزت عنه طيلة عقدَين من عمر ثورتها الإسلامية، التي كانت قد هدّدت باحتلال بغداد وكربلاء وإسقاط نظام “البعث” باعتباره “عائقاً أمام الحرس الثوري للذهاب إلى تحرير القدس”، كما كان يروّج الإعلام الإيراني آنذاك.
على مهل، بنت إيران إمبراطوريتها في العراق، مستغلّة تعطّش شريحة واسعة من العراقيين للتعرّف عن قرب إلى تجربة إيران الإسلامية التي تشبههم مذهباً، فضلاً عن حالة الفراغ الكبير التي خلّفتها القرارات الأميركية عقب إسقاط النظام السابق، والتي تمثّلت بحلّ الجيش العراقي وتفكيك المؤسّسات الأمنية، إلى جانب دخول القوى السياسية والعسكرية التي رعتها إيران على مدار سنوات. ليس سراً أن جميع الحكومات التي تناوبت على إدارة العراق بعد 2003 كانت موالية لإيران، وإن تباينت درجة الولاء بين مطلقة وكبيرة. بل لم يعد سرّاً أيضاً أن العراق تحوّل حديقةً خلفيةً لإيران، نجحت من خلالها في الوصول إلى سواحل المتوسّط عبر سورية، قبل أن تفقد هذا الممرّ بعد نجاح الثورة السورية وإسقاط نظام بشّار الأسد. يقول المحلل الأميركي بيل روجيو، في مقال له بمجلة لونغ وور جورنال، التابعة لمؤسّسة الدفاع عن الديمقراطيات، إن لدى الإيرانيين استراتيجية فعّالة في العراق، إذ يستخدمون كل الوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادية لتحقيق أهدافهم، مستغلّين قربهم الجغرافي من العراق. اليوم، تملك إيران في العراق العديد من الأوراق، وهي تدرك جيّداً أن العراق يمكن أن يكون خطّ دفاعها الأول. صحيح أنها لم تستطع تفعيل هذا الخطّ خلال حرب الأيام الاثني عشر، لكن يمكن تفعيله في حال اندلعت حرب أخرى ضدّ إيران. والأهم، أنه يمكن استغلاله للالتفاف على العقوبات الدولية.
شهدت الصادرات الإيرانية إلى العراق ارتفاعاً مذهلاً، من 2.35 مليار دولار عام 2017 إلى أكثر من عشرة مليارات دولار بحلول 2023
شهدت الصادرات الإيرانية إلى العراق ارتفاعاً مذهلاً، من 2.35 مليار دولار عام 2017 إلى أكثر من عشرة مليارات دولار بحلول 2023، تغطي الغاز والكهرباء والسلع الاستهلاكية. ووفقاً لتقارير وزارة الخزانة الأميركية، تقوم شبكات عراقية إيرانية بعمليات واسعة لتهريب النفط الإيراني من خلال خلطه بالنفط العراقي وبيعه باعتباره نفطاً عراقياً، ما دفع واشنطن إلى فرض عقوبات على شخصيات عراقية متورّطة في هذه العمليات. كما تستخدم إيران ما بات يُعرف بـ”البنوك الظليلة” في العراق لتحويل الأموال وتهريبها إلى إيران. وهي عبارة عن دكاكين مصرفية لا عمل لها سوى شراء الدولار من العراق وتهريبه إلى إيران.
ووفقاً لتقرير صادر عن معهد دراسات الحرب، نقلت هذه الشبكات 130 مليون برميل نفط بقيمة 9.6 مليارات دولار بين عامي 2019 و2023. في هذا الصدد، يشير معهد السياسة الخارجية في واشنطن إلى أن العراق بات اليوم “شريان حياة” لإيران في مواجهة العقوبات، من خلال تهريب النفط والنقد عبر “محور المقاومة”، وهو ما يحقّق لإيران مليارات الدولارات سنوياً.
الآن، تتجه الأنظار كلّها إلى انتخابات نوفمبر (المقبل) في العراق، إن جرت في موعدها. فإمّا أن تفرز واقعاً جديداً يستفيد من المتغيّرات الإقليمية، أو تكرّس من جديد “إمبراطورية الظلّ” الإيرانية في العراق، ما يعني مزيداً من المخاوف (والقلق) بشأن مستقبل العراق ونظامه السياسي.