رأي

«ما بعد الحقيقة» تتلألأ في «كوب 28»

كتب د.صلاح الغول في صحيفة الخليج:

من أهم تجليات الثورة الهائلة في مجالات الإعلام والاتصال وتكنولوجيا المعلومات هو التعرض لسيول من الحقائق البديلة ليل نهار. ومفهوم الحقيقة البديلة، أو ما يطلق عليه «ما بعد الحقيقة» post-truth، ليس طباقاً لمفهوم «الحقيقة»، ولا يعني مجرد الكذب؛ بل هو أكثر راديكالية منه؛ لأن المقصود بخطاب «ما بعد الحقيقة» هو إقناع المخاطَب بأنه خطاب حقيقي، في حين أنه لا يهدف أصلاً إلى التصديق؛ بل غرضه التعبير عن الأهواء والمشاعر والانفعالات، لا التعبير عن الوقائع أو التقيد بسقف الإمكانات الواقعية.

وفي توضيحه للمفهوم، يُشير معجم أكسفورد إلى أن «ما بعد الحقيقة» صفة تتعلق بمواقف تكون الحقائق الموضوعية فيها أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام من التوجه إلى العاطفة والإيمان الشخصي. وهذا بعد واحد من أبعاد المفهوم؛ أي زيادة وزن العوامل الذاتية والانتقائية فيه مقارنة بالحقائق الموضوعية. بيد أن الخطورة هنا أن هذا المُركّب، الذي يحتوي على بعض البيانات الواقعية وكثير من الالتجاء إلى العواطف والمشاعر، لا توجد معايير للحكم عليه، أو بالأحرى لا يمكن الحكم عليه من زاوية صحته أو خطئه. ومن هنا، نفهم كيف أن البعض يُرادف بين «ما بعد الحقيقة» وما يُسميه «شبه الحقيقة». وقد طُرحت مفردات متعددة لمفهوم «ما بعد الحقيقة»، منها التضليل المتعمد باستخدام الإعلام الرقمي، واستخدام التحايل والإغواء في الخطاب، أو تزييف الحقائق وقلبها.

والواقع أن مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (كوب28) الملتئم حالياً في إكسبو دبي (30 نوفمبر-12 ديسمبر 2023)، والذي يهدف إلى معالجة أكثر الأزمات المركبة والملحة في القرن الحالي (أزمة تغير المناخ)، غدا أرضية خصبة لازدهار خطاب ما بعد الحقيقة. فوفقاً لتقرير إحدى وكالات الأنباء العالمية، تعد فترة (كوب 28) بيئة ملائمة لتزييف الحقائق وقلبها. وقد فهم ذلك رئيس المؤتمر المعين الدكتور سلطان الجابر، الذي يتعرض لموجة عاتية من النقد والهجوم والاتهام، فصرّح بأننا (يقصد رئاسة المؤتمر ودولة الإمارات) منتقدون أو ملعونون إذا فعلنا، ومنتقدون أو ملعونون إذا لم نفعل.

وثمة أمثلة عديدة من الحقائق البديلة التي تُروج عن «كوب 28». فاستضافة المؤتمر في دولة رائدة في الطاقة المتجددة وفي تنظيم الفعاليات الدولية أصبحت استضافة دولة نفطية كبرى، تسعى إلى زيادة طاقتها الإنتاجية؛ ما يعد إساءة لثقة الجمهور. وتعيين الجابر لرئاسة المؤتمر الذي نظر إليه على أنه جدير بأن يجعل شركات النفط والغاز تتحمل مسؤولياتها في تقليل الانبعاثات الضارة، أصبح دليلاً صارخاً لتضارب المصالح. ولعل المقابلة بين ثناء جون كيري، مبعوث المناخ الأمريكي، على شخصية رئيس المؤتمر وقدح آل غور، نائب الرئيس الأمريكي السابق والناشط المناخي، فيه يوضح مقصدي.

وقد افتتح «كوب 28» بإنجاز أشاد به المراقبون، وهو الاتفاق على تفعيل الصندوق العالمي للمناخ أو صندوق الخسائر والأضرار، لمساعدة الدول النامية على مواجهة آثار تغير المناخ. بيد أن هذا الإنجاز، الذي عجز «كوب27»عن الوصول لمثله، غير كافٍ ومشكوك في دور الصندوق من جانب بعض النشطاء البيئيين. وبينما تم الاحتفاء بالتعهدات الطوعية للدول لمكافحة تغير المناخ التي تعلنها دولة الإمارات، تم الادعاء بأن هذه التعهدات تؤثر سلباً في فرص تبني اتفاقية رسمية. ونُظر إلى تشجيع شركات الوقود الأحفوري على زيادة أرصدتها من الكربون على أنه غسل أخضر. وعلى الرغم من أن الاقتراب الواقعي لمعالجة الانبعاثات هو التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، نظر إليه على أنه إنكار للتغيرات المناخية.

ووصلت ما بعد الحقيقة مداها في تردد تقرير ل«رويترز» عن العدد غير المسبوق من الحضور في «كوب 28» مقارنة بمؤتمرات كوب السابقة (نحو 84 ألف شخص) بين تقييم ذلك بأنه إلهاء خطِر أو دليل على النجاح. بيد أن التقرير المذكور، والمنشور في 4 ديسمبر/كانون الأول الجاري، حسم أمره، مقيماً العدد الكبير من الشركات الخاصة المشاركة في المؤتمر بأنه حوّل الأخير إلى معرض تجاري، على الرغم من وجود مناشدات من النشطاء والمنظمات الدولية بضرورة إدماج القطاع الخاص في جهود مكافحة تغير المناخ.

ولا يحسبن أحد أن دولة الإمارات، أو رئاسة المؤتمر، حساسة للنقد أو الانتقاد؛ بل إنها أكثر حرصاً على سبر آراء واستقراء تصورات المشاركين في المؤتمر أفراداً ومؤسسات، دولاً ومنظمات دولية ومجموعات مدنية، لاسيما السلبية منها، لمعالجتها، وإخراج هذه الدورة من دورات كوب في أحسن تقويم.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى