صدى المجتمع

مايكل مان: المخرج الذي لم يتخل عن تمجيد الذكورة المتفوقة.

هناك نوع من التقديس المرتبط بالفردانية الذكورية التي لا يمكن لمخرجي أفلام معينين أن يحيدوا عنها مهما بلغت أعمارهم. مايكل مان هو أحد أولئك المخرجين. “لا تتعلق بشيء، ولا تسمح بوجود أي شيء في حياتك لا يمكنك التخلي عنه بسهولة خلال 30 ثانية، إذا شعرت باحتدام الموقف”. تلك كانت فلسفة اللص الخبير نيل ماكولي (يلعب دوره روبرت دي نيرو) في فيلم الإثارة والجريمة الملحمي “حرارة” Heat الصادر عام 1995 من إخراج مان. وبينما تعد تلك الكلمات من أكثر الحوارات المحفورة في ذاكرة سينما الآكشن خلال تسعينيات القرن الماضي، فإنها كانت ستمتلك المصداقية ذاتها لو خرجت من شفاه الممثل جون وين الذي لعب دور حارس الأمن إيثان إدواردز في فيلم المخرج جون فورد “الباحثون” The Searchers الصادر عام 1956، الذي وصفه المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي ذات مرة بأنه راعي بقر وحيد “محكوم عليه بالتجول بين الرياح”.

تعد شخصية جيف التي جسدها كاري غرانت، وهو رئيس شركة شحن جوي في مكان بعيد منعزل في جنوب أميركا في فيلم المخرج هاورد هوكس “الملائكة وحدها تمتلك أجنحة” Only Angels Have Wings الصادر عام 1939، مثالاً آخر على تلك الشخصيات المجبولة من الطينة القاسية ذاتها. “مات جو وهو يحلق، أليس كذلك؟ كان هذا عمله، لم يكن فقط جيداً بالقدر الكافي”، كان ذلك رد فعل جيف بعد مقتل طيار آخر من طياريه الشباب وأحد أصدقائه المقربين، وسط الضباب. يعد التعلق العاطفي أمراً خطيراً يجب تجنبه بأي ثمن بالنسبة إلى أولئك الرجال.

في مختلف الأحوال، لم يحد مان عن وجهة نظره إزاء الذكورة. يُعرف أبطال أفلامه، وهم دائماً رجال، باحترافيتهم وقسوتهم. إنهم لا ينهارون أمام الشدائد، ونادراً ما يعبرون عن مشاعرهم.

سيسجل المخرج الأميركي المخضرم حضوره في مهرجان البندقية من خلال فيلمه الجديد “فيراري” Ferrari، الذي يتناول قصة سيد عالم سيارات السباق ورجل الأعمال الإيطالي، إنزو فيراري، (يلعب دوره آدم درايفر). بنظرة مسبقة، نرى أن إنزو هو بطل آخر من أبطال السينما القساة الوحيدين، إنه رجل من رجال مان يقوم بما يفترض بالرجال فعله. تلعب بينلوبي كروز دور زوجته، لورا فيراري، فيما تجسد شيلين وودلي دور عشيقته، لينا لاردي. تدور أحداث الفيلم خلال فترة قصيرة ومضطربة من حياة شخصيته الرئيسة، وذلك بعد فترة طويلة من تقاعده من عالم سباق السيارات بغية البدء في تصنيعها. يقف مصنع إنزو على حافة الإفلاس. توفي ابنه أخيراً، وزواجه على المحك. يغامر إنزو في تلك المرحلة بكل ما يملك – عائلته وسمعته – في رهان على أن بإمكانه الفوز في سباق ميليه ماليا لعام 1957، وهو سباق يمتد مسافة ألف ميل على الطرقات العامة بين بريشيا وروما بمشاركة أكثر من 300 سيارة، كان سباقاً مميتاً بقدر ما كان ذائع الصيت. 

كتب الكاتب بروك ييتس في كتابه المنشور عام 1991، “إنزو فيراري: الرجل والآلة” Enzo Ferrari: The Man and the Machine، الذي استقى مان أحداث الفيلم منه: “لطالما اعتبرت أكثر الأمم تحضراً سباقات الطرق المفتوحة خطرة للغاية”. أحب الإيطاليون سباق ميليه ماليا، إذ كان أكثر من 10 ملايين شخص يصطفون في كل عام لمشاهدة “السيارات السريعة وهي تتسابق على طرقات حقيقية، عبر منعطفات جبلية حادة وملتوية، وفي شوارع المدينة الضيقة”.

نجح الرهان في عام 1957 إلى حد ما. انتصرت فيراري بفضل السائق بييرو تاروفي (يجسد دوره في الفيلم باتريك ديمبسي، وهو سائق سباق سيارات في الواقع وممثل في الوقت نفسه) الذي حل في المركز الأول. على كل حال، يقضي منافس آخر كان يقود سيارة فيراري بطريقة مأسوية بعد انفجار إطار سيارته، وهو الأرستقراطي الإسباني، المقامر المتهور ألفونسو دي بورتاغو (غابرييل ليون). تم تصويره قبل لحظات من الحادثة، خلال توقف قصير أثناء السباق، وهو يقبل النجمة السينمائية ليندا كريستيان (تلعب دورها سارا غيدون). خرجت سيارته عن السيطرة مثل “عجلة الموت”، على حد تعبير ييتس وارتطمت بالحشود. توفي اثنا عشر شخصاً، بينهم خمسة أطفال، وبورتاغو نفسه – الذي “انشطر جسده إلى نصفين بواسطة غطاء محرك سيارة الفيراري”.

حقق إنزو النصر الذي كان يتوق إليه، لكنه دفع ثمناً باهظاً. كتب ييتس مستذكراً في كتابه: “أحاط الموت بـ إنزو فيراري كما يفعل الضباب في مودينا في الشتاء”. طاردته الصحافة، وأعرب الفاتيكان عن سخطه، قائلاً إن رياضات المحركات غير أخلاقية. اتُهم بالقتل غير العمد. وعلى رغم أنه كان من “السخيف وغير المنطقي” لوم صانع السيارات على المذبحة (كما يقول ييتس)، احتاج إنزو أربع سنوات لتبرئة اسمه.

يَعد هذا إذاً بأن يكون الفيلم قصة خلابة لرجل آسر. بدا إنزو بنظراته السوداء وبدلاته الأنيقة كأحد زعماء المافيا، بقدر ما بدا كأحد أقطاب صناعة السيارات. يحتفي موقع فيراري الإلكتروني بما يسميه “العقلية المتفردة التي لا ترحم” لمؤسس الشركة. يمكنكم بسهولة إدراك سبب انجذاب مان الشديد إليه كموضوع لفيلمه.

قال المخرج (الذي كان أيضاً منتجاً تنفيذياً في فيلم “فورد في مواجهة فيراري” Ford vs Ferrari الصادر عام 2019) لصحيفة “يو أس إيه تودي نيوز” قبل بدء العمل على المشروع: “إنها قصة مكثفة للغاية، إذ تقع أحداثها خلال أربعة أشهر فقط من عام 1957، لكنها أربعة أشهر محورية في حياة إنزو… وهكذا، هي قصة درامية للغاية. لا أهتم بالسيرة الذاتية التوثيقية التي تحاول اختزال حياة برمتها”. في مناسبة أخرى، وصف الفيلم بأنه “ميلودراما أوبرالية تجري أحداثها في الحياة الواقعية”. استغرق العمل على الفيلم الجديد وقتاً طويلاً، بقدر الوقت الذي احتاجه بطل القصة لصناعة إحدى السيارات العزيزة على قلبه. كتب السيناريو الكاتب البريطاني الراحل تروي كيندي مارتن (المعروف بكونه مؤلف المسلسل التلفزيوني البوليسي “سيارات زد” Z Cars وكاتب فيلم “المهمة الإيطالية” The Italian Job من بطولة مايكل كين). تتلاءم القصة تماماً مع تقاليد مان في تقديم قراءات مفعمة بالتستوستيرون، ومشبعة بالتفاصيل لشخصية البطل المتوحد – وهي صيغة ناجحة لجأ إليها مراراً وتكراراً المخرج المولود في شيكاغو.

تشترك الشخصية الرئيسة في أول فيلم له حظي بعرض جماهيري “لص” Thief الصادر عام 1981، في السمات ذاتها مع كل من شخصيتي فيراري، ونيل ماكولي الذي لعب دوره دي نيرو. لص الخزنات فرانك (جسد دوره جيمس كان) هو أيضاً واسع الحيلة ويعتمد على نفسه. إنه يمتلك ولع فيراري بالمحركات، ومثل نيل ماكولي، تعرض للسجن لبعض الوقت. يقول فرانك لنادلة (تلعب دورها تيوزداي ويلد) التي ارتبط بعلاقة بها: “لا أهتم بشيء سوى نفسي… نجوت لأنني وصلت إلى تلك العقلية”. فتجيبه: “أنت لا تعلم، بين يوم وآخر، إن كنت ستقتل أو ستعود إلى المنزل أو سيلقى القبض عليك” – إنها نصيحة قد تكون نافعة أيضاً لأي من أبطال مان.

تمتلك علامة مان المميزة لسينما الآكشن الذكورية جذوراً عميقة. تعج أفلام العصابات والويسترن بشخصيات تتجول وحيدة، وتموت وحيدة، وغالباً ما يحدث ذلك خلال صراع دموي أو عاصفة من الرصاص. إنهم أشخاص محترفون يمتلكون نظرة قاتمة وزاهدة للحياة، لا يشتكون حينما يعاندهم الحظ. لم تعد تلك الشخصيات التي لا تمتلك صفات البطل التقليدي وغالباً ما يجسدها رجال، مقبولة اليوم، لكنها تبدو وكأن الزمان عفا عليها بشكل غريب. لم تعد الرجولة تقاس في السينما كما في المجتمع، بمدى سرعتك ومهارتك في سرقة خزنة أو قتل أعدائك بإطلاق النار عليهم. ولم يعد ذرف الرجل الدموع أو إظهاره التردد أمراً محرماً كذلك.

دائماً ما ترسم المقالات التعريفية التي تكتب عن مان صورة كاريكاتيرية له تجعله يبدو كإحدى شخصيات أفلامه المنعزلة عاطفياً والمدفوعة بالغضب. تحدثت صحيفة “ذا نيويورك تايمز” العام الماضي عن تعبيره عن ألمه خلال تصوير فيلم “فيراري” بسبب لون ورق الجدران في غرفة لورا فيراري. نُقل عن دانييل داي لويس (الذي لعب دور البطولة في فيلم مان “آخر الموهيكان” The Last of the Mohicans) وصفه للمخرج بأنه “مثقف، لكنه يفكر كمهندس، ويمتلك روح فنان”. تجعله هذه الكلمات يبدو مثل هاورد رورك، المهندس المعماري البطل المنشق، الذي انتهى به الأمر بتفجير مبناه بالديناميت في الفيلم المبالغ به بشكل سخيف “المنبع” The Fountainhead الصادر عام 1949 من بطولة غاري كوبر والمقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة آين راند.

لاقى تقديس راند للفردانية المتطرفة إعجاب الجميع من دونالد ترمب إلى أوليفر ستون. كتب الكاتب جوناثان فريدلاند في محاولة لتلخيص أسباب استمرار روايات راند في الرواج: “ترسم راند شخصية الذكر، رجل الأعمال الرأسمالي المتفوق، رجل الأفعال الذي يتغلب على الأناس صغار الشأن والبيروقراطيين التافهين – وينجز جميع الأمور”. تفعل أفلام مان شيئاً مشابهاً، فأبطالها دائماً ما يكونون مستقلين وعنيدين ويسيرون في الطريق الذي يختارونه، سواء أكان البطل هو القاتل الذي جسد دوره توم كروز في فيلم “أضرار جانبية” Collateral (2004)، أم شخصية المجرم التي جسدها دي نيرو في فيلم “حرارة” ، أم المستكشف الذي لعب دوره داي لويس في فيلم “آخر الموهيكان”، أو بطل ملاكمة الوزن الثقيل الذي جسده ويل سميث في فيلم “علي” Ali (2001)، أو حالياً شخصية فيراري التي يجسدها آدم درايفر.

أعاد المخرجون الآخرون الذين تخصصوا، مثل مان، في صناعة أفلام الآكشن المثيرة عن الذئاب المنفردة، ترتيب أولوياتهم مع تقدمهم في العمر. أصبحت أفلام المخرج الراحل هاورد هوكس الأخيرة أكثر مرحاً بشكل ملحوظ. تم تصوير فيلمه “هاتاري” Hatari الصادر عام (1962)، وهو فيلم سفاري كوميدي خفيف وبسيط، في تنزانيا، وقد اختار هوكس الممثل جون وين للعب البطولة في مواجهة الفيلة والقرود الصغيرة التي تخطف الأضواء. قال المخرج لاحقاً حول المزاج المتساهل والساخر السائد في الفيلم: “أردت جعله يبدو كإجازة”. مع اقتراب نهاية حياته، ابتعد المخرج الياباني الكبير أكيرا كوروساوا عن قصص الساموراي، واتجه نحو الكوميديا كما في فيلم “ماداداديو” Madadadyo (1993)، والدراما العميقة مثل “ملحمة في أغسطس” Rhapsody in August (1991)، وهو أحد أفلامه القليلة التي لعبت فيها أنثى دور البطولة، ويتحدث عن قصة امرأة عجوز فقدت زوجها خلال إلقاء القنبلة النووية على ناغازاكي، وفيلمه المتعمق متعدد القصص “أحلام” Dreams (1990). في عمر الثمانين، يقاوم مان هذا التوجه السائد في نهاية المسيرة المهنية، ولم يحد عن موضوع الذكورية قيد أنملة. نشر العام الماضي روايته الأولى، وهي عبارة عن تكملة للقصة التي يتناولها فيلم “حرارة”، ويأمل في تحويلها إلى فيلم (من المحتمل أن يحل آدم درايفر مكان دي نيرو في دور نيل ماكولي)، وها هو الآن مستعد لإطلاق “فيراري”.   

كانت ردود الفعل المبكرة على الفيلم الجديد مبهرة. علق الناقد معد البرامج دينيس ليم، بعد إعلانه أن فيلم “فيراري” سيختتم مهرجان نيويورك السينمائي لهذا العام، بالقول: “لقد صنع مان أفلاماً رائعة عديدة، لكن ربما لم يكن أي منها بهذا القدر من الإثارة والتأثير في الوقت نفسه… هذا ليس مجرد عمل فذ أُنجز ببراعة، بل تطوراً كبيراً ومذهلاً للموضوعات في مسيرته المهنية، وأكثر أعماله عمقاً على المستوى الشخصي”. هذه كلمات تحمل كثيراً من التبجيل، ويبقى أن نرى ما إذا كان الفيلم الجديد سيكبح بالفعل القوة الجامحة للأعمال التي سبقته. في نهاية المطاف، حتى مخرجي الأفلام الأكثر تركيزاً على شخصية الذكر المتفوق يفقدون زخمهم عاجلاً أم آجلاً. ستأتي لحظة يكتشفون فيها أن الأمور تحتدم – ويدركون ببساطة أنهم أضعف من مواجهتها.

يعرض فيلم “فيراري” للمخرج مايكل مان في منافسات الدورة الثمانين من مهرجان البندقية السينمائي، الشهر المقبل.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى