رأي

سنُهدرُ ما حققته غزة: الغربُ ليس “كتلة واحدة”!

كتب محمود سلطان, في “الجزيرة” :

“ليسوا سواء” .. كلمتان تختزلان قانون التنوع الطبيعي داخل أيّة جماعة “إثنية / عرقية” أو “دينية/ طائفية” أو “أيديولوجية / سياسية”!.. إذ من بين معوقات فهم العالم، النظرة “الاختزالية” إليه، من خلال لونين وحسب “أسود وأبيض”، فيما لا نرى المنطقةَ الرماديةَ والتدرجَ في الألوانِ بينهما.

وفوق ذلك “إرثٌ” آخر يتعلق بـ”علاقات السلطة” والعقائد السياسية المتوارثة، منذ قرون طويلة، في دول جنوب وشرق المتوسط.. والتي تختزل الأمة في شخص الزعيم/ الرئيس: “أنا الأمة/أنا الدولة/أنا الشعب”  أيًا ما كانت هُويتها أو اسمها.

هذان إرثان أثرا بشكل ـ قد لا يكون مباشرًا ـ في تقييم نظرة الشعوب العربية لموقف العالم الغربي ـ على تنوعه واتساعه ـ من الحرب الإسرائيلية على غزة، وما قد يترتب عليه من نتائج قد تُهدر كثيرًا من المكاسب في هذا السياق.

العِلمانية الغربية

يتعين علينا التشديد ـ هنا ـ على أن الغرب ليس كتلةً خراسانيةً بطلاء واحد، حتى في تفاصيله التي تأتي تاليةً للعناوين الكبيرة التي تتكلم عن “فصل الدين عن الدولة”، وذلك على سبيل المثال.

فالعلمانية الغربية ليست واحدةً: علمانية ألمانيا “الوجود الرمزي للمسيحية /الكنيسة كمرجعية أخلاقية وقيمية” تختلف جذريًا عن علمانية فرنسا “اللائكية /المتطرفة” المعادية لكل ما له رمزية دينية باستثناء هامش يتسامح مع العطلات الرسمية في الأعياد المسيحية.

فيما تقترب علمانية بريطانيا من الروح التي أسس لها الـ”لاأدري” الإنجليزي جورج جاكوب هوليوك (1817- 1906).. والتي استقرَّت على التخلي عن النزعة العدائية للدين والوقوف على مسافة واحدة من جميع الأديان.

في المقابل تقوم العلمانية الأميركية على مبدأ “تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة”، مع استدعاء القصص التوراتية لتأصيل ما يعتقدون بأنهم “أمة مختارة” من الربّ!

حتى الحداثة الغربية ما زالت موضوعًا للجدل العام، وليس ثمة اتفاق لا على تاريخ نشأتها، ولا عن فحواها (معناها الاصطلاحي والحركي).. فهي فضفاضة وغامضة ومضطربة وسائلة إلى حد لا يمكن ـ بحال ـ قياسها على أي معايير موضوعية.

فثمة من يُرجع نشأتها مع اختراع “غوتنبرغ” للطابعة المتحركة عام 1436، في حين يرى آخرون أنها بدأت مع الاحتجاجات “اللوثرية” ضد سلطة الكنيسة عام 1520، فيما يُرجح فريقٌ ثالث بأنها وُلدت مع الثورتين: الأميركية عام 1776، والفرنسية عام 1789.

وترفض أقلية كل هذه الاجتهادات، وتشير إلى أنها لم تبدأ إلا مع ظهور كتاب فرويد “تفسير الأحلام”.

كما أن معناها “فسيفساء” واسعة، وفرق وملل ومذاهب مختلفة (هيغل، ماكس فيبر، ديكارت، لا بتننز، رولان بارت، ماركس، وإميل دور كايم) وهي “حداثات” متعددة ومتباينة ومتضاربة ومختلفة وليست “حداثة” واحدة.

السلطة الخامسة

وفي الوقت ذاته، ليس بوسع أي مراقب رصين، أن يتجاهل وجود “سلطة خامسة”، خارج السياسات الرسمية (الحكومات) في الدول الغربية (المجتمع الأهلي) والذي يتصدى لتوحش الدولة وتغوّلها على حقوق الإنسان: الدولة في أوروبا ـ وفي امتدادها الطبيعي “الولايات المتحدة الأميركية” ـ ليست مختزلة في كتلة واحدة.. وفي رمزية “الرئيس”.. بل إن اتجاهات الرأي العام داخل المجتمع المدني مُدرجةٌ على أولويات أجندة صنّاع القرار.. وقد يتراجع القرار السياسي الرسمي، استجابةً لضغوط الأحزاب والقوى السياسية المنظمة، أو ما هي خارج الأطر التنظيمية، نزولًا عند مطالبها.

على سبيل المثال لم تكن فرنسا “في طبعتها الأهلية” واحدة فيما يتعلق باستعمارها الجزائر: لقد ساند اليسار الفرنسي “المتطرف” من التروتسكيين والفوضويين والإباحيين الثورة الجزائرية، مطالبًا بتحرير الجزائر واستقلالها. فيما كان اليسار الفرنسي المتمثل في (الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي)، مترددًا بين حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، وإبقاء الجزائر مرتبطة مع فرنسا!!

ولعله من الأهمية الإشارة إلى الصحفي اليساري الفرنسي اليهودي ” هنري علّاق” ـ المولود عام 1920 ـ أحد أبرز الوجوه الفرنسية التي قامت بدور كبير في توعية الرأي العام الدولي بمأساة الجزائر وحقها في تقرير مصيرها. والذي طُرد وسُجن وعُذب وحُكم عليه بالسجن عشر سنوات لإسكاته.. وقد اختار لقب ” علّاق ” .. وهو لقب عائلة جزائرية مسلمة، خلال فترة نضاله، وبقي معه طوال حياته.

وكذلك، لم تكن الولايات المتحدة الأميركية “واحدة”، فيما يتعلق بالحرب في فيتنام.. بل تشكّلت قوى مدنية صلبة رافضة لها، نضجت بمضي الوقت وبالتراكم، حتى أفضت إلى تيار اجتماعي شعبوي يتّسع باطراد، وبحلول عام 1970 لم يكن يعتقد سوى ثلث الأميركيين بأن الولايات المتحدة لم ترتكب خطأ بإرسال قوات للقتال في فيتنام. وانتهت مع الانسحاب النهائي للقوات الأميركية، بعد اتفاق “باريس” للسلام عام 1973.

ومن المفارقات اللافتة في هذا الإطار ما سجلته “نيويورك تايمز” وتضفيرها لماضي “فيتنام” وحاضر”غزة” الآن.. حيث قالت في تقرير لها:  ” كانت الحركة المناهضة للحرب في فيتنام ذات أغلبية ساحقة من البيض، مثل معظم الجامعات في الستينيات. إلا أن الجامعات عام 2023، خصوصًا في المناطق الحضرية، تحتوي على عدد أكبر بكثير من الطلاب الملوّنين، ويبدي الكثيرون منهم التعاطف مع وضع الفلسطينيين، بوصفهم سكانًا محاصَرين تحت سيطرة قوة أكبر وأشد. كما أن غير الطلاب يشكّلون الجزء الأكبر من المحتجين في الوقت الحاضر”.

تقنيات الإعلام

بعد نصف قرن تقريبًا، جرى كثيرٌ من الماء تحت الجسر، وانتقلت قوى التأثير وصناعة الرأي العام من قبضة “السلطة” إلى الفضاء الإلكتروني ولم تعد الحكومات تحتكر وحدها أدوات إعادة تشكيل الوعي على النحو الذي يتطابق مع رؤيتها للأحداث، وتعددت المنصات التي تنقل الوقائع على الهواء مباشرة “حكومية” أو “أهلية” وقنوات “يوتيوب” خاصة، لم يعد معها بوسع أية دولة التستر على جرائمها بحق الآخرين.

وجاءت الحرب على غزة، بالتزامن مع هذا التحول الهائل في تقنيات الإعلام الاجتماعي، لتعيد هيكلة الرأي العام/الأهلي الغربي، ونظرته للقضية الفلسطينية، وتعمقت الانقسامات بين الشعوب الغربية وحكوماتها بشأن هذا الملف، وبدت صورة الغرب في تشظيه ـ لأول مرة ـ على هذا القدر من الوضوح: حكومات مؤيدة للعدوان على غزة، وأخرى مناهضة لها، فيما اتسعت جغرافيا الغرب الشعبوي المؤيد للفلسطينيين والمعادي لـ”تل أبيب”، بلغت حد أن شارك أكثر من خمسة ملايين متظاهر في مدن رئيسية بأوروبا وأميركا الشمالية، في يوم واحد خلال عطلة الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وذلك بحسب تقديرات إعلامية محايدة وغير رسمية.

يتعين ـ إذن  ـ الحذر من “هوجة” انتقاد الغرب ـ كله بلا تمييز أو وعي ـ والنيل من تجربته السياسية، بكل “إكسسواراته” من ديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وحرية الرأي والتعبير، وما شابه.. بسبب “النفاق السياسي” لأنظمته الحاكمة التي تتحرك كـ”ذيلٍ” للولايات المتحدة الأميركية.. إذ بوسع الدول التسلطية أن تستثمر هذا “النفاق الرسمي” الغربي لإقناع شعوبها ـ خاصة الفقيرة والأقل تعليمًا وثقافة ـ بألا تثق في “الديمقراطية” كأداة لإعادة المعنى للإنسان وكرامته، وإعلاء إرادته وحقه في اختيار وتسمية قادته السياسيين.

هذا المنحى ـ الحملة على الغرب بوصفه كتلة واحدة ـ  سيهدر ما حققته غزّة على صعيد “وحدة القيم الإنسانية” المشتركة للعالم والتي جعلت الشعوب الغربية، هي الأكثر حراكًا وحيوية وخروجًا إلى الشوارع؛ رفضًا للمذابح وحرب الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في القطاع.. وتوّجت بالحدث الأهم: جرجرة “تل أبيب” إلى “لاهاي” كدولة منبوذة وملاحقة من القضاء الدولي.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى