العراق بين شرط “الإطار” و”فيتو” واشنطن

كتب إياد الدليمي في صحيفة العربي الجديد.
رغبة الإطار التنسيقي الشيعي في العراق تنصيب رئيس وزراء بمنصب مدير عام لتنفيذ سياساته، يقابلها “فيتو” أميركي حازم يمنع تولّي أيّ شخص له ارتباط بالفصائل أو مَن شغل منصباً تنفيذياً رفيعاً عقب الغزو الأميركي. شعاران متضادّان يسيطران على المرحلة الحسّاسة التي يدخلها العراق بعد الانتخابات التي مضى عليها أكثر من شهر، ولم تزد المشهد إلا تعقيداً وهشاشةً، وبات مستقبلها غامضاً، أو على أقلّ تقدير يصعب التنبؤ بمآلاته؛ هو العراق الذي يقف بين سندان هنا ومطرقة هناك، بين أقصى يمين وأقصى يسار، حتى لكأنّه لا يملك من قراره شيئاً.
يصبح السوداني، الذي عُدّ سابقاً “مشروعاً أميركياً”، الخيار الأنسب اليوم لقوى الإطار التنسيقي
ينقل “التلفزيون العربي” عن مصادر عراقية مطّلعة أن “الإطار التنسيقي”، بوصفه الكتلة البرلمانية الكبرى، تلقّى إشاراتٍ أميركية واضحة بـ”عدم التعاون” مع أيّ شخصية مرتبطة بالفصائل الشيعية يمكن أن تتولّى رئاسة الحكومة، وهذا يشمل أيضاً الحقائب الوزارية السيادية في البلاد، مثل الخارجية والدفاع والداخلية، والأجهزة الأمنية الرئيسة التي تتعامل معها قوات التحالف الدولي، وأبرزها رئاسة أركان الجيش، وجهازا مكافحة الإرهاب والمخابرات. ويزيد هذا الضغط الأميركي الجديد من صعوبة مهمة تشكيل الحكومة على قوى “الإطار التنسيقي”، التي باتت بحاجةٍ إلى اتّخاذ قرارات جريئة لتجنّب أيّ صدام مقبل مع الإدارة الأميركية، خصوصاً أن الحديث عن عقوبات منتظرة قد تصدر قريباً تطاول شخصيات بعضها ما زال يشغل مناصب وزارية في الحكومة الحالية. وهذا يعني أن واشنطن بدأت تُطبق الخناق على رقبة قوى الإطار التنسيقي التي هي، بعبارة أدقّ، الممثّل السياسي لقوى السلاح والمليشيات.
من هنا، تبدو حظوظ محمّد شياع السوداني (رئيس الحكومة المنتهية ولايتها) الخيار الأنسب حالياً لقوى الإطار التنسيقي. والغريب أن “الإطار” كان قد أعلن مسبقاً أنه من غير الممكن التجديد للسوداني، إذ كانت بعض قوى “الإطار”، وتحديداً التي تُعتبَر التيار الأقرب لتوجّهات إيران وخطّ “المقاومة”، ترى فيه “مشروعاً أميركياً”. لكن الموقف تغيّر مع توجيهات أميركية واضحة، أبرزها منشور مبعوث الرئيس ترامب إلى العراق مارك سافايا بمناسبة ذكرى الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). فبعدما هاجم هذا المليشيات والسلاح المنفلت، وعزا إليهما سبب تردّي الوضع وتأخّر المكانة الاقتصادية للعراق، أشاد في المقابل بنهج الحكومة العراقية في السنوات الثلاث الماضية، معتبراً أنه أثبت إمكانية تحقيق الاستقرار. وهذه إشارة التقطتها بعض قوى الإطار التنسيقي المُقرَّبة من إيران، والتي لديها أذرع مسلّحة، وفي مقدّمتها حزب الله العراقي، الذي هاجم سافايا على لسان الناطق باسمه، مهدّداً إيّاه ومتوعّداً كلَّ مَن يتواصل معه من ساسة العراق، بمَن فيهم “المُعمَّمون” على حدّ ما جاء في بيانه.
حساسية الظرف الإقليمي ودقّة تفاصيل “المشروع الكبير” في منطقة الشرق الأوسط تجعلان أيَّ مجازفة غير محسوبة من قوى الإطار التنسيقي بمثابة انتحار، الأمر الذي يتطلّب مقاربات أخرى، وربّما مكلفة، على تلك القوى القيام بها. وفي المقابل، السؤال الأهم: هل تملك قوى الإطار التنسيقي المُقرَّبة من إيران خيار الاختيار والتفاوض بعيداً من رغبات (وتأثيرات) الفاعل الأكبر والمؤثّر الأهم في قراراتها: إيران؟
في هذا السياق، يقول المبعوث الأميركي إلى سورية توم برّاك، قبل أيام، بوضوح: “إيران لن تترك العراق بسهولة، لقد جرى دفعها إلى التراجع مع حزب الله، ومع حماس، ومع الحوثيين، وتعرّضت لهجوم على أرضها بعد حرب الأيام الاثني عشر، وهي تُقاتل بقوة للحفاظ على العراق، فالعراق بالنسبة إليها… هو كل ما تبقّى”. من هذا المنطلق، تنظر إيران إلى العراق؛ فهو ملاذها الأخير بعد أفولٍ وانحسارٍ نفوذ ظلَّ يتمدّد داخل منطقة عربية رخوة أكثر من ثلاثة عقود. برّاك الذي يتحدّث بلا تحفّظ، بل وأحياناً بعيداً من الدبلوماسية، لم يتردّد في انتقاد سياسات حكومة بلاده التي فشلت في العراق بعدما أنفقت ملايين من الدولارات وسلّمته إلى إيران، التي نجحت في ملء الفراغ الأميركي، وبات تهميش دورها في العراق بالغ الصعوبة.
العراق اليوم بين سندان مشروع داخلي مسنود بالسلاح ومطرقة شرط خارجي
تتقاطع المصالح الأميركية الإيرانية على رقعة العراق، لا مفرّ من ذلك. فإيران، التي لم تعد تحتمل مزيداً من الانحسار والعزلة ترى أن رئتها التي تُنعش وجودها السياسي والاقتصادي هي العراق. في المقابل، لا ترى أميركا من سبيل لمزيد من عزلة إيران وحصارها سوى إحكام قبضة الباب العراقي، سياسياً واقتصادياً.
السوداني، رغم كل ما حشده الإطار التنسيقي ضدّه من هجمات وتسقيط، ابتدأ حتى قبل الانتخابات، ربّما يشكّل مخرجاً من عقدة اختيار رئيس الحكومة التي بات “الإطار” بحاجة ماسّة إلى حسمها. هذا الحلّ، وإن كان لا يروق لبعض قادة “الإطار” ومن خلفهم المليشيات المسلّحة، إلا أنه يبقى “أهون الشرور” لتفادي المواجهة مع إدارة أميركية يبدو أنها عازمة على استعادة العراق من “النفوذ الإيراني الخبيث”، كما وصفه وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في اتصال هاتفي سابق مع السوداني.




