من الشرق الأدنى إلى القوقاز مروراً بالمتوسط: إسرائيل وتركيا، أفضل الأعداء

بقي «التواطؤ المتقلب» السمة الغالبة للعلاقات التركية – الإسرائيلية خلال العقدين الماضيين. بلور برتران بديع، عالم السياسة الفرنسي، هذا المفهوم، للدلالة على التحولات التي طرأت على طبيعة العلاقات بين أبرز اللاعبين السياسيين الدوليين والإقليميين على المسرح العالمي، والميل المتزايد لدى معظمهم إلى تغليب التقاطعات المؤقتة والموضعية بين بعضهم البعض على التحالفات الثابتة.
ينطبق هذا التوصيف على العلاقات الروسية – التركية، وتلك الروسية – الإسرائيلية، وكذلك التركية – الإسرائيلية، وإلى حدّ ما أيضاً على التركية – الإيرانية. وربما قد نشهد، بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والشرخ المرشح للتعاظم بين ضفتي الأطلسي، اندراج العلاقات بين جزء وازن من الدول الأوروبية من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، في إطار «التواطؤات المتقلبة».
تعيد «الأخبار»، في ما يلي، نشر أهم ما ورد في مقال الصحافية والكاتبة الفرنسية المتخصصة في الشؤون التركية، آريان بوزون، والذي نُشر في عدد أيار من شهرية «لوموند ديبلوماتيك»، وتناول واقع العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني واحتمالات تطورها مستقبلاً بعد المتغيرات الكبرى على الساحة السورية وانعكاساتها على موازين القوى في الإقليم.
في آذار/ مارس 2022، وفي قمة النقب، رفرفت أعلام البحرين، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة، والمغرب، وإسرائيل جنباً إلى جنب. من جهتهما، أعادت الرياض وأبو ظبي علاقاتهما مع الدوحة — الحليف الوثيق لأنقرة. ويبدو أن شرق أوسط جديداً بدأ يتشكل، قد تجد تركيا نفسها مستبعدة منه. يوضح السيد ليئيل: «الرئيس أردوغان [المنتخب لهذا المنصب في 2014] هو من بادر إلى السعي إلى تطبيع علاقات بلاده مجدداً مع إسرائيل.
لقد غيّرت اتفاقيات أبراهام [الموقعة في 2020] نظرته إلى الأمور: لقد فهم أنها حسّنت بشكل كبير من موقع إسرائيل في الشرق الأوسط». وفي أيلول/ سبتمبر 2023، التقى كل من إردوغان وبنيامين نتنياهو على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان يُنتظر أن يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي بزيارة إلى أنقرة. وهجوم حركة «حماس» في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وقع بينما كانت تركيا تستعد لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
لم يُدن رئيس الدولة التركي العملية، بل رفض استخدام مصطلح «إرهابي»، واصفاً التنظيم بأنه «مجموعة من المحرّرين الذين يحمون أرضهم». ومع ذلك، وعلى أمل لعب دور الوسيط بين الأطراف، طرح في الأسابيع التي تلت خطة لضمان الأمن. لكن هذا الاقتراح قوبل بالتجاهل من جميع المعنيين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة. وذلك التجاهل، الذي كان وقعه ثقيلاً في أنقرة، يفسّر النبرة المتشددة التي تلت الطرح المذكور.
من غرفته الصغيرة، وباستخدام جهاز الكمبيوتر فقط، يكرّس الصحافي التركي المنفي في ألمانيا، متين جيهان، جهوده لتوثيق ما يصفه عدد متزايد من المراقبين بـ«الوجه المزدوج» للسلطة التركية: سلطة تتحدث بصوت عالٍ، ولكنها لا تتخلى عن تعاملاتها مع إسرائيل. يُحلل جيهان الأرقام: «مصادر مفتوحة، لا شيء سرياً. كل شيء مكتوب، فقط ابحث»، كما يشرح لنا. وعلى حسابه في منصة «X»، يكشف يوماً بعد يوم عن حجم المبادلات. ويُعتبر «أكثر فعالية من جميع المعارضين مجتمعين». «إنه يقوم بالمهمة عنا»، يعترف ناشطون ينددون بـ«نفاق» السلطة. جزء كبير من الرأي العام التركي — 45% منه ينظر بإيجابية إلى «حماس» — يطالب بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل.
عبر مطالبته بفرض عقوبات على تل أبيب، وإغلاق محطة الرادار الأميركية في كوريجيك والتي يستخدمها الإسرائيليون، وحتى إرسال قوات إلى غزة، يحظى «حزب الرفاه الجديد» (YRP) الذي يرأسه السيد فاتح أربكان — نجل المعلم السياسي السابق لإردوغان — بتأييد متزايد، حتى داخل صفوف «حزب العدالة والتنمية». يرفض السيد إردوغان التحالف مع «حزب الرفاه الجديد»، ولكنه لا يُخفي انزعاجه من شعبية هذا الخصم الإسلامي الذي حصل على نحو 7% من الأصوات في مارس 2024، وحرمه من مدينتين كان حزبه يسيطر عليهما سابقاً.
وبعد بضعة أيام، أعلنت أنقرة وقف تصدير أربعة وخمسين منتجاً إلى إسرائيل، ثم أوقفت في الشهر التالي جميع العلاقات التجارية مع هذا البلد. وقد كلفت هذه العقوبات تركيا ثمناً باهظاً، إذ بلغت صادراتها إلى إسرائيل أكثر من 5 مليارات دولار. وفي المدة ذاتها تقريباً، احتضن السيد إردوغان وفداً من حركة «حماس» بقيادة إسماعيل هنية، وتم إلغاء زيارة «الريس» إلى واشنطن، كما أعلنت تركيا انضمامها إلى الخطوات التي تقودها جنوب أفريقيا لمقاضاة إسرائيل أمام «المحكمة الجنائية الدولية» بتهمة الإبادة الجماعية.
تشرق الشمس على الضفة الآسيوية لإسطنبول صباح يوم الأحد، 6 أكتوبر 2024.
يحيى السنوار، «العسكري» في حركة «حماس»، يحمل طفلاً ورشاشاً بين ذراعيه، تطل صورته على الحشد الصغير المتجمع في أسكدار. الرجال من جهة، والنساء من جهة أخرى، ويهتف بضع مئات من المتظاهرين لصورة «المقاومة ضد العدو الصهيوني»، ملوحين بأعلام «حماس» وفلسطين. صورة أخرى تبرز بين الحضور، وهي صورة إسماعيل هنية، «السياسي» الذي كان الرئيس التركي يصفه بـ«أخيه»، والذي قُتل قبل أكثر من شهرين على يد الإسرائيليين في إيران، وقد أُعلن في تركيا يوم حداد وطني حداداً عليه. ومع رفع أصابعهم، يردد المتظاهرون خطبة الإمام من المنصة. وتدين اللافتات حلف الناتو وتتهم الجيش الإسرائيلي بارتكاب «إبادة جماعية» في غزة.
في عطلة نهاية الأسبوع نفسها، ولكن على الضفة الأوروبية من البوسفور، وتحديداً في «تقسيم»، يتم التنديد بحلف «الناتو» أيضاً من قبل متظاهرين ساروا بدعوة من عشرات النقابات والحركات اليسارية، احتجاجاً على «الإمبريالية الأمريكية والصهيونية». وقد طالب المتظاهرون بدولة موحدة «من البحر إلى النهر». لكن بدلاً من صور السنوار وهنية، رفعوا صورة ليلى خالد — عضو في «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» وأول امرأة قامت بخطف طائرة في مطار عمّان عام 1969 — وقد غطت رأسها بالكوفية وسلاح كلاشينكوف في يدها.
أما الفتيات المحجبات القليلات في الحشد، فلم يجدن أنفسهن في خطاب الإسلاميين على الضفة الأخرى، بل انضممن إلى مجموعة «شباب من أجل فلسطين»، ذات التوجه اليساري، ويعرّفن أنفسهن بأنهن «مسلمات ضد أردوغان». وقد عبّرن عن صدمتهن من اعتقال زميلتهن بيزا بنغيسو أكيوز قبل أشهر بطريقة عنيفة. فقد كُبلت بالأصفاد وأُخذت بالقوة من قبل الشرطة أثناء تظاهرها في قلب إسطنبول للمطالبة بفرض عقوبات على إسرائيل. والدها كان قد قُتل على يد قوات إسرائيلية خلال الهجوم على سفينة «مافي مرمرة».
في «تقسيم»، لم يستجب ناخبو «حزب الشعب الجمهوري»» (CHP)، الكمالي الاجتماعي الديموقراطي، لدعوة اليسار. يفسر الباحث أورليان دنيزو هذا التباين قائلاً: «حزب الشعب الجمهوري حزب يعترف بشرعية وجود إسرائيل، ولا يرى في حماس طرفاً للحوار، ويعارض فرض العقوبات». وفي 28 نيسان/ أبريل 2024، صرّح زعيم الحزب إمام أوغلو، الذي سيُسجن بعد ذلك بنحو عام، على قناة CNN، قائلاً: «حماس شنت هجوماً في إسرائيل أحزننا بشدة، ونعتبر أي تنظيم يرتكب هجمات إرهابية ويقتل أعداداً كبيرة من الناس تنظيماً إرهابياً». لذا، يدعو نحو نصف مؤيدي ذلك الحزب الحكومة التركية إلى البقاء على الحياد في هذا الصراع، مقابل ربع فقط من مؤيدي «حزب العدالة والتنمية» يبدون الرأي نفسه.
غياب آخر لافت يتمثل في الحركة الكردية المطالبة بالحكم الذاتي. فقد ابتعد ناشطوها في السنوات الأخيرة عن القضية الفلسطينية. «في السابع من أكتوبر، لم يتمكنوا من كبح عقد مقارنة بين أسلوب عمل حماس وتنظيم الدولة الإسلامية، الذي خسروا أمامه عشرة آلاف مقاتل»، يوضح الصحافي عرفان أكتان. ويذكّر ناشط كردي: «أثناء معركة كوباني [في أيلول/ سبتمبر 2014]، لم يتحرك الفلسطينيون لمصلحتنا، لم يدعمونا أبداً». ومن زنزانته في سجن أدرنة، عبّر السيد صلاح الدين دميرطاش، الرئيس المشترك السابق لـ«حزب الشعوب الديموقراطي» (HDP)، عن تضامنه مع الفلسطينيين على منصة «إكس»، بعد اغتيال هنية في تموز/ يوليو 2024. وقد جلب له هذا المنشور سيلاً من الشتائم من قبل الأكراد.
في القصر الرئاسي في أنقرة، لا أحد يجهل مساهمة تل أبيب في نجاح الهجوم الذي شنته «هيئة تحرير الشام» (HTC) — والتي يدعمها نظام إردوغان — وبالتالي في سقوط نظام بشار الأسد. الغارات الجوية الإسرائيلية دمّرت «حزب الله» وأضعفت إيران، وهما من الداعمين الأساسيين للنظام في دمشق. ولا أحد يأسف في أنقرة على مصير الحركة الشيعية التي كانت تقاتل قوى المعارضة — بما في ذلك الجماعات الجهادية — التي دعمتها تركيا. «في العمق، يقول هنري باركي، الأستاذ الفخري للعلاقات الدولية في جامعة ليهاي، تجد إسرائيل وتركيا نفسيهما في مواقف متشابهة في سوريا. كلاهما يحتل أراضي سورية مهمة، وكلاهما يواجه تحديات أمنية متقاربة: الأكراد بالنسبة إلى الأتراك، وحزب الله وجماعات أخرى بالنسبة إلى إسرائيل. ولا أحد منهما يريد عودة الإيرانيين، رغم أن ذلك احتمال بعيد الحدوث». إن إضعاف إيران، الخصم التاريخي، يخدم مصلحة تركيا.
يمكن أن تصبح تركيا وإسرائيل حليفتين موضوعيتين؟ كلاهما قام بتسليح ودعم أذربيجان عسكرياً خلال حرب ناغورني قره باغ الثانية عام 2020، والتي انتهت بهزيمة أرمينيا. «قبل السابع من أكتوبر، كانت أذربيجان قد حاولت بالفعل التقريب بين تركيا وإسرائيل»، يذكّر روسيف حسينوف، مدير مركز «توبتشوباشوف» في باكو. وحتى اليوم، تحتفظ أذربيجان بتحالفها مع تركيا وشراكتها الإستراتيجية مع إسرائيل.
وإذا كانت أنقرة قد منعت طائرة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، من التحليق فوق الأراضي التركية أثناء توجهه إلى باكو في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، فإن هذا التصرف كان يهدف بالأساس إلى تهدئة النشطاء الأتراك المعارضين لاستمرار نقل النفط الأذري إلى إسرائيل عبر ميناء جيهان في جنوب تركيا. ومع ذلك، لا تزال مشاريع بنية تحتية تركية – إسرائيلية أخرى في الأدراج. من بين هذه المشاريع، واحد مدعوم من أوروبا الساعية إلى تقليص اعتمادها على روسيا، وهو بناء خط أنابيب يربط حقل الغاز البحري الإسرائيلي «ليفياثان» بميناء جيهان. الحرب في غزة أوقفت النقاشات بشأن هذا المشروع، ولكن أنقرة لا تستبعد استئنافها بعد وقف إطلاق النار.
منذ سقوط الأسد، لم تمنع تقاطعات المصالح تصاعد التوترات. «سوريا ستصبح مصدراً جديداً للخلاف بين البلدين»، يتوقع الأستاذ باركي. إسرائيل تشكك في النفوذ التركي على السلطة الجديدة في دمشق، وتفضل سوريا ضعيفة ولا مركزية. فهي تحتل الجولان إلى ما بعد المنطقة العازلة التي أُنشئت بعد حرب أكتوبر 1973، وتُظهر نيتها في «الدفاع» عن الدروز ضد النظام السوري الجديد.
كما إن وزير الخارجية الإسرائيلي وصف الشعب الكردي بأنه «حليف طبيعي» لإسرائيل (صحيفة «تايمز أوف إسرائيل»، 10 نوفمبر 2024). وإن قيام «روجافا» مستقل — أي الكيان الكردي المستقل في شمال شرق سوريا — يُعد كابوساً حقيقياً لأنقرة، لأنه قد يشكّل، كما يتخيل عالم السياسة خليل كارافيلي، «حليفاً موثوقاً لإسرائيل عند نقطة التقاء إستراتيجية بين الأناضول وبلاد ما بين النهرين والمشرق». ويضيف كارافيلي أن «الطموحات الإسرائيلية تقف في الغالب وراء الانفتاح التاريخي الحالي تجاه الأكراد»، إثر إعلان عبد الله أوجلان دعوته «حزب العمال الكردستاني» إلى تسليم سلاحه في شباط/ فبراير 2025.
«بعد لبنان، ستكون بلادنا هي المحطة التالية التي ستضع إسرائيل أعينها عليها»، هذا ما أعلنه الرئيس التركي خلال الجلسة الافتتاحية للبرلمان في الأول من أكتوبر الماضي. وإذا كان عدد من المراقبين، ولا سيما الإسرائيليين، يرون أن تل أبيب لا تملك الوسائل لفتح جبهة إضافية ضد أنقرة — خصوصاً أن مواجهة كبرى مع إيران تبدو الهوس الحالي لرئيس الوزراء الإسرائيلي — فإن أحد المشاركين في المفاوضات الحالية بشأن سوريا لا يستبعد احتمال وقوع نزاع مسلح مع تركيا: «في نظر نتنياهو، أصبحت تركيا الآن العدو الأقرب. وإذا طالبت أنقرة بمنطقة حظر جوي في شمال سوريا أو حصلت على سلطة السيطرة الجوية، فسيُعدّ ذلك سبباً للحرب بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يصر على الحفاظ على حرية كاملة في تنفيذ الغارات سواء هنا أو في إيران».
نزاع مسلح بين القوتين العسكريتين الكبيرتين في المنطقة، إحداهما حليفة للولايات المتحدة والأخرى عضو في «حلف شمال الأطلسي»؟ ذلك من شأنه أن ينسف نهائياً المقولة الشهيرة للديبلوماسيين الأتراك: «كل شيء كان سيجري على ما يرام مع إسرائيل لولا القضية الفلسطينية».
المصدر: الأخبار