المرحلة الأخيرة من المشروع الإسرائيلي

كتب غازي العريضي في صحيفة العربي الجديد.
قال عضو الكونغرس الأميركي ليندسي غراهام (معروف بتطرّفه وهوسه بإسرائيل وبالدفاع عنها): “شاهدت بأم العين جنوداً إسرائيليين يطلقون النار في غزّة على فلسطينيين يرفعون الرايات البيضاء. وقتل المستوطنون مواطناً أميركياً من أصل فلسطيني زار الضفة الغربية لتفقّد أهله. أطالب بتحقيق ومحاسبة”. أعلنت منظمة الهجرة الدولية أن الجيش الإسرائيلي “يتوغّل في دير البلح، ويستهدف محطّة تحلية مياه. يعاني الفلسطينيون مستوياتٍ مروّعة من المعاناة. أكثر من 90% من المنازل في غزّة قد دُمِّرت أو تضرّرت”. قدّم مسعفون على الأرض شهادات أكدّت أن الدبّابات “أطلقت النار باتجاه خيام تؤوي عائلات نازحة”. منظّمة الصحة العالمية تناشد: “مقرّ إقامة طاقم المنظّمة في دير البلح هوجم ثلاث مرّات، وكذلك مستودعها الرئيس. دخل الجيش واحتجز الأفراد والأهالي”. أعلنت الأمم المتحدة أن “800 شخص قتلوا في أثناء انتظارهم المساعدات”.
لا إرادة سياسية عربية، بل قصر نظر في القراءة. خوف، وتردّد، وبحث عن حماية مصالح آنية
تمنع إسرائيل الإعلاميين من الدخول إلى غزّة. ممنوع كشف الحقائق، ووكالة الصحافة الفرنسية (فرانس برس) تُعلِن أنها تخشى “أن يموت مراسلو وكالتنا التي أُسّست من عام 1944 جوعاً. نرفض أن نشاهدهم يموتون”، ويقول أحد المواطنين: “أرفض أن أخرج بكيس للبحث عن الطعام فأعود محمّلاً فيه”، وتقول إسرائيل للإعلاميين: “حرصاً عليكم نمنع دخولكم”، في استهتار بعقول الناس وكراماتهم. مَن يهدّد الصحافيين والإعلاميين والمصوّرين؟ مَن يستهدفهم؟ أهؤلاء المساكين البؤساء الفلسطينيون الأبرياء الذين يُقتَلون إعداماً برصاص الجيش الإسرائيلي، وأحياناً من عناصر أميركية، وهم يركضون وراء نقطة توزيع ما أو علبة أرزّ أو حليب؟… تريد إسرائيل الاستمرار بهواياتها وترفها وحقدها، وممارسة عنصريتها وكراهيتها تجاه الفلسطينيين، فتقتلهم تحت عنوان “إنساني”، والهدف هو اقتلاعهم من أرضهم.
منظّمة شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة تُعلِن: “نتلقّى رسائل يأس عن المجاعة من قطاع غزّة، بما في ذلك من زملائنا، ويجب رفع الحصار وإدخال المساعدات الإنسانية بأمان، وعلى نطاق واسع إلى قطاع غزّة”. الحكومة البريطانية تؤكّد: “نموذج تقديم المساعدات الذي تتبعه إسرائيل خطير، ويغذّي عدم الاستقرار، ويحرم سكّان غزّة من كرامتهم. نستنكر قتل الأطفال. ندعو الحكومة الإسرائيلية إلى رفع القيود المفروضة على تدفّق المساعدات، ونعارض بشدّة أيَّ خطوات نحو تغيير ديمغرافي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. نستنكر التوزيع البطيء للمساعدات وقتل المدنيين بمن فيهم الأطفال الذين يسعون لتلبية أبسط حاجاتهم”. هذا الكلام بيان وقّعته أكثر من 30 دولة، واعتبرته اسرائيل: “مرفوضاً. هو منفصل عن الواقع”. هي الواقع، والحقيقة، وهي الأمر الواقع، والآمر الناهي. هي مرتكب المجازر والإبادة منذ نشوئها، وهي الخصم والحَكم. وتأكيداً على ذلك، أعلن جدعون ساعر وزير الخارجية: “أصدرت تعليمات بعدم تمديد تأشيرة إقامة مسؤول المكتب الأممي لتنسيق الشؤون الإنسانية توم فليتشر. من ينشر الأكاذيب عن إسرائيل لن نتعاون معه”.
لاحقاً، صدر بيان ثلاثي بريطاني فرنسي ألماني يُعلِن: “حان الوقت لانتهاء الحرب في غزّة. الكارثة الإنسانية التي نشهدها يجب أن تتوقّف. ودعا إسرائيل إلى السماح فوراً للأمم المتحدة والمنظّمات غير الحكومية بالقيام بعملها. نحن ملتزمون بدعم الجهود الدبلوماسية التي تبذلها الولايات المتحدة وقطر ومصر”.
الجواب الإسرائيلي أعلنه نتنياهو أولاً: “في اللحظة التي تُلقي فيها حماس سلاحها وتستسلم، ربّما نسمح لهم بالمغادرة. وقتها ستنتهي الحرب”. وزير المالية بتسلئيل سموتريتش قال: “انتهت مراسم التفاوض المذلّ مع الإرهابيين، وحان وقت تحقيق النصر”. وأعلن وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير: “الطريق الأمثل لاستعادة الرهائن وتحقيق النصر، هو وقف المساعدات واحتلال كلّ غزّة، وتشجيع الهجرة والاستيطان”.
قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: “سنُعلِن دعمنا قيام الدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة”. ثار جنون إسرائيل، فردّ نتنياهو: “الدولة الفلسطينية ستكون في مثل هذه الظروف بمثابة منصّة لإبادة اسرائيل لا للعيش معها بسلام”. وسخر السفير الأميركي لدى الدولة اليهودية مُعلِّقاً: “يمكنني أن أعلن أن فرنسا ستقدّم الريفييرا الفرنسية لقيام الدولة الفلسطينية”. يعني أن ريفييرا الشرق الأوسط ستكون في أرض فلسطين كما أعلن ترامب قبله، وإذا كنتم تريدون دولةً فلسطينيةً فخذوا الفلسطينيين إلى “ريفييرتكم”، هذا هو الهدف الاسرائيلي الذي خطا الكنيست خطوةً في أبعد في اتجاهه، عندما صوّت على مشروع قرار يدعو إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وغور الأردن، وفي ذلك تهديد لكلٍّ من الأردن ومصر. وفي موضوع غور الأردن، كتب جون كيري، بعد خروجه من الوزارة (كان وزيراً للخارجية الأميركية)، أن نقاشاً دار بينه وبين نتنياهو وقيادة السلطة الفلسطينية، وطُرحت فكرة وجود قوات أميركية هناك، فرفضها نتنياهو. طُرحت فكرة قوات دولية فرفض. والجواب الثابت: “لا يحمي أمن إسرائيل إلا الجيش الإسرائيلي”. هذا هو المشروع الأساس، لم (ولن) يتغيّر اليوم، في ظلّ التقدّم الإسرائيلي، الذي يتصرّف على أساس أن لا أحد يقف في وجهه، أو يمون على إسرائيل أو يفرض عليها أمراً. إنها فرصة تاريخية في نظر قادة إسرائيل فلماذا تفويتها؟
يقول بن غفير: “نحن أصحاب البيت. كلّ شيء لنا”. والنائبة ليمور سون هار ميليخ أعلنت: “أريد أن أكون واضحةً، لا دولة فلسطينية، لا الآن ولا لاحقاً، ولا بأيّ شكل من الأشكال. لا حكم ذاتياً مطوّراً، ولا إمارات نابلس والخليل (فكرة طرحها فلسطينيون مستعدّون للاعتراف بإسرائيل دولةً يهوديةً)، ولا كونفدرالية، ولا كيان دون دولة”. وشاركها نواب ووزراء بالقول: “إنه قرار تاريخي لا عودة عنه”.
وهم هو الاعتقاد أن إسرائيل تحمي أحداً غير مصالحها وأن أميركا تشكّل حمايةً على المدى البعيد
في هذا التوقيت، أعطى الرئيس الأميركي ترامب الضوء الأخضر لنتنياهو لاستكمال الحرب: “على إسرائيل إنهاء المهمّة والقضاء على حماس”. إنه قرار إطلاق يد جيش الاحتلال في غزّة، وفي الضفة أيضاً. إنه مشروع تهويد فلسطين. “القفص” جاهز في غزّة لإدخال الناجين من المواطنين وسجنهم فيه، في انتظار تأمين نقلهم إلى دول بعيدة، تُجري أميركا وإسرائيل اتصالات في هذا الشأن مع دول أفريقية وغير أفريقية، وسيكون لذلك تداعيات كبيرة على واقع المنطقة كلّها.
مجدّداً أقول: يخطئ من يتصرّف على أساس أنه سيكون بمنأى عن مخاطر هذه التداعيات، ومن الوهم الاعتقاد بأن إسرائيل تحمي أحداً غير مصالحها، وبأن أميركا تشكّل حمايةً على المدى البعيد. دول المنطقة ستكون مقبلةً على مشاكل داخلية اقتصادية ومالية وسياسية وأمنية. لن يبقى قويّ فيها، بل لن يبقى عنصر قوة فيها خارج الإرادة الإسرائيلية، رغم كلّ ما يقال اليوم وما يدّعيه بعضهم من أدوار وحضور “ونفوذ”. نحن في المرحلة الأخيرة من هذا المشروع وستكون طويلة. الخطر يدهمنا. فهل يبادر أصحاب الشأن للاستفادة ممّا تبقّى للحدّ من الخسائر على الأقلّ؟ لست متفائلاً. السبب: لا إرادة سياسية، بل قصر نظر في القراءة. خوف، وتردّد، وبحث عن حماية مصالح آنية، وإذا وجدت الإرادة فليس ثمّة إدارة سليمة حكيمة. آمل أن أكون مخطئاً.