الهيدروجين الأخضر: مشروعات طموحة بين أوروبا وشمال أفريقيا… وتحديات كبيرة
شهد العالم في السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بالطاقة المستدامة وتقنيات الطاقة النظيفة كجزء من الجهود المبذولة لمواجهة التحديات البيئية والتغيرات المناخية. في هذا السياق، برز الهيدروجين الأخضر كحل مبتكر وواعد في مجال الطاقة النظيفة، حيث يتم إنتاجه من مصادر متجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح من دون انبعاثات كربونية.
وقد أدرك الاتحاد الأوروبي الدور الحيوي الذي يمكن أن يلعبه الهيدروجين الأخضر في تحقيق أهدافه المناخية وتعزيز أمن الطاقة. ونتيجة لذلك، بدأ الاتحاد في تكثيف جهوده لتعزيز التعاون مع دول شمال أفريقيا، لا سيما مصر والجزائر وتونس، التي تتمتع بموارد طبيعية غنية وإمكانات كبيرة لإنتاج الهيدروجين الأخضر.
الاستفادة من المناخ
تهدف هذه المشاريع المشتركة إلى الاستفادة من الظروف المناخية المواتية في شمال أفريقيا لتوليد الطاقة المتجددة، ومن ثم إنتاج الهيدروجين الأخضر بكفاءة عالية. يشمل التعاون بناء البنية التحتية اللازمة، وتطوير تقنيات الإنتاج والنقل، فضلاً عن توفير فرص استثمارية واسعة تساهم في التنمية الاقتصادية المستدامة لتلك الدول.
من خلال هذا التعاون، يسعى الاتحاد الأوروبي ليس فقط إلى تلبية احتياجاته من الطاقة النظيفة، ولكن أيضًا إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادي والسياسي في منطقة شمال أفريقيا عبر دعم مشاريع الطاقة المستدامة التي من شأنها خلق فرص عمل وتحفيز النمو الاقتصادي المحلي.
في هذا الإطار، استقبلت وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة فاطمة ثابت وكاتب الدولة للتحول الطاقي وائل شوشان، في تونس العاصمة، في 22 يوليو/ تموز الماضي، وفداً من هيكل بعثة خطة ماتي وشركتي إينيل وإيني.
كان الهدف من الاجتماع، وفقاً لوكالة “أنسا” الرسمية الإيطالية، هو مناقشة إمكانية التعاون في التطوير المشترك لمشروع تجريبي لإنتاج الهيدروجين المتجدد في تونس، كجزء من تنفيذ خطة ماتي لأفريقيا وفي المنظور الأوسع للتكامل الطاقي بين شمال أفريقيا وأوروبا، مع إيطاليا كمركز لتلبية الاحتياجات الأوروبية من الطاقة.
وتهدف هذه المبادرة إلى تمكين التطوير الكامل لسلسلة الإمداد بالهيدروجين الأخضر في تونس، والتحقق من شروط تنفيذه تقنيًا وتسريع تطوير الجوانب التنظيمية.
علاوة على ذلك، وفي إطار روح الشراكة التي تقوم عليها خطة ماتي، تتوخى المبادرة المشاركة المباشرة للشركات والمشغلين التونسيين في تطوير وتنفيذ المشروع لصالح نقل المهارات أيضاً من خلال التعاون المحتمل مع مراكز البحوث والجامعات التونسية والإيطالية.
وكان الكونسورتيوم الفرنسي TE H2 المكون من مجموعتي توتال وإيرين قد وقع في 28 مايو/ أيار الماضي، بمشاركة شركة فيربوند النمساوية للكهرباء، مذكرة تفاهم مع الجمهورية التونسية لإطلاق مشروع ضخم يحمل اسم “H2 Notos” لتصدير الهيدروجين الأخضر إلى وسط أوروبا عبر خطوط أنابيب الغاز.
ويهدف “H2 Notos” إلى إنتاج 200 ألف طن من الهيدروجين الأخضر سنوياً في مرحلته الأولى من خلال استخدام أجهزة تحليل كهربائي تعمل بواسطة مشروعات طاقة رياح وطاقة شمسية ومزودة بماء بحر بعد تحليته، مع إمكانية الوصول بالطاقة الإنتاجية إلى مليون طن سنوياً في جنوب تونس.
هذا المشروع سيكون له نفاذ إلى السوق الأوروبي من خلال ممر الطاقة الجنوبي، وهو مشروع خط أنابيب هيدروجين يربط شمال أفريقيا بإيطاليا والنمسا وألمانيا.
من جانبها، رأت مؤسسة “فيدير كاميري” الإيطالية لدعم الشركات الإيطالية أنه “على الرغم من أن H2 Notos يشي بإمكانات واعدة، فإن ثمة تحديات مختلفة يتعين تجاوزها. ولن يصدر القرار النهائي حول هذه الاستثمار قبل 2027، والأمل أن تلتزم الأطراف بالبرنامج الزمني”.
الهيدروجين الأخضر في شمال أفريقيا
وأشارت “فيدير كاميري”، في تقرير نشرته على موقعها الرسمي بتاريخ الثامن من يوليو/ تموز الماضي تحت عنوان “الهيدروجين الأخضر: آفاق المستقبل بين شمال أفريقيا ووسط أوروبا”، إلى أن “تونس بإمكانها أن تصبح أحد المصدرين الرئيسيين للهيدروجين المتجدد على مستوى العالم، مع التشغيل المنتظر للممر الجنوبي خلال عام 2030”.
وعلى هامش اجتماعات المجلس الأوروبي في بروكسل فيو 30 مايو/ أيار الماضي، وقعت كل من إيطاليا والنمسا وألمانيا مذكرة تفاهم (إعلان نوايا مشترك)، بحضور وزراء الطاقة في الدول الثلاث والمفوضة الأوروبية لشؤون الطاقة كادري سيمسون من أجل تطوير ممر للهيدروجين بين شمال أفريقيا ووسط أوروبا، بهدف إنتاج ونقل عشرة ملايين طن من الهيدروجين الأخضر بحلول عام 2030.
من جانبه، شدد وزير الطاقة الإيطالي غيلبرتو بيكيتّو فراتين على الدعم المتواصل من قبل الحكومة الإيطالية لهذا المشروع، مشيراً إلى الإمكانات الكبيرة للقارة السمراء لإنتاج طاقة متجددة.
وأضاف فراتين أن هذا المشروع يخرج أيضاً من رحم خطة ماتّي التي تهدف إلى تعزيز النمو والأمن في ضفتي البحر المتوسط.
من ناحية أخرى، وقع رئيس هيئة موانئ البحر التيراني الشمالي الإيطالي لوتشانو غويرّييري ونائب رئيس هيئة ميناء دمياط المصري اللواء طارق عدلي (الرئيس الحالي للهيئة)، نهاية يونيو/ حزيران الماضي في بروكسل، مذكرة تفاهم بهدف تعزيز دور ميناءي ليفورنو وبيومبينو كممرين مميزين لتجارة الطاقة في المنطقة الأورو-متوسطية.
هذا الاتفاق يأتي على وجه الخصوص في ظل المنظومة التي من المنتظر أن تُطلق قريباً لاستيراد الهيدروجين من دول ثالثة، مع ما يستتبعها من إقامة بنى تحتية للتخزين والتوزيع والاستخدام.
ومما يؤكد على مدى أهمية الهيدروجين في سياق هذا الاتفاق، أن التوقيع عليه جرى على هامش مؤتمر حول إمكانيات تطوير الهيدروجين على مستوى الاتحاد الأوروبي، والذي كان بمثابة مبادرة ذات طابع دولي، شارك فيها أيضاً من الجانب المصري مستشار شؤون النقل البحري بقطاع النقل البحري واللوجستيات شريف زكريا، ورئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري إسماعيل عبد الغفار، بحضور المستشار الأول لمدير عام الطاقة بالمفوضية الأوروبية تيودور كوستانتينيسكو.
وأشار غويرّييري إلى أن “هيئة موانئ البحر التيراني الشمالي تسير على الطريق الذي رسمته الحكومة الإيطالية الحالية وخطة ماتي. ومن بين أهداف الهيئة الاستراتيجية تهيئة الأرض لتأسيس سلسلة حقيقية قيّمة للهيدروجين (وادي الهيدروجين لساحل توسكانا)، لتقديم الخدمات الملاحية واللوجستية والصناعية في البحر التيراني الشمالي”.
وأضاف أنه “من هذا المنطلق يأتي هذا الاتفاق مع ميناء دمياط الواقع شمالي مصر، التي من الممكن أن تصبح أحد المنتجين والمصدرين الرئيسيين للهيدروجين في البحر المتوسط. وهدفنا هو تحويل ميناءي ليفورنو وبيومبينو إلى معبر لنقل الهيدروجين في حالته السائلة من شمال أفريقيا”.
ومن المقرر أن تعد هيئة موانئ البحر التيراني الشمالي دراسة جدوى حول سلسلة إمدادات متوسطية للهيدروجين الأخضر، ومن المنتظر أن تُعلِن نتائجها الأولية على هامش أسبوع الهيدروجين الأوروبي الذي تستضيفه بروكسل في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
ممر إلى مركز أوروبا الصناعي
أوضح خبير الطاقة الإيطالي البارز والباحث في مؤسسة “Rie” لأبحاث الصناعة والطاقة فرنشيسكو ساسّي أن “مذكرة التفاهم الموقعة أخيرًا بين إيطاليا وألمانيا والنمسا لتطوير ممر الهيدروجين بين شمال أفريقيا وأوروبا الوسطى تنص على بناء ممر لنقل الهيدروجين الأخضر من شمال أفريقيا إلى المركز الصناعي لأوروبا، وبالتالي تسريع التحول في مجال الطاقة ودعم اقتصاديات البلدان التي يعبرها”.
وأضاف ساسّي، في حديث خاص لـ”العربي الجديد”، أن “هذا المشروع يقوم على الاستخدام، الجزئي على الأقل، للبنى التحتية القائمة حالياً لنقل الغاز الطبيعي. ولهذا السبب، فإن تقييم تكاليف هذا الممر يبدو أمراً بالغ التعقيد”، مشيراً إلى أنه “على الرغم من ذلك، فإن الاستثمارات اللازمة لدعم التنفيذ سوف تقع، على الأقل جزئيا، على عاتق المؤسسات العامة، مع تدخل من قبل الحكومات والاتحاد الأوروبي، الذي دعم المشروع لفترة طويلة”.
وفي ما يتعلق بالمشاريع الخاصة بالهيدروجين الأخضر المتفق عليها بين الاتحاد الأوروبي ومصر، رأى أنها “مشاريع طموحة، ولكنها ترتكز أيضاً على أسس هشة. والحقيقة هي أن الاتحاد الأوروبي خصص استثمارات كلية على وجه التحديد لدعم بعض المشاريع في قطاع طاقة الرياح والطاقة الشمسية والتي من شأنها أن تسمح في المستقبل بإنتاج مستقر للهيدروجين الأخضر والأمونيا لتصديرهما لاحقًا إلى الأسواق الأوروبية”.
واستدرك قائلا: “على الرغم من ذلك، فما زالت ثمة شكوك قوية حول الاستقرار السياسي والاقتصادي الداخلي في مصر، فضلاً عن قدرة البلاد على تحويل الاستثمارات في مصادر الطاقة المتجددة إلى مشاريع فعالة ومنتجة من شأنها ليس فقط دعم التحول في البلاد وإنما أيضًا ضمان أمن الطاقة، والذي بدونه سيكون من المستحيل توقع تصدير الهيدروجين إلى أسواق أخرى”.
ورداً على سؤال حول الدور الذي يمكن أن تلعبه الشركات الإيطالية في تنفيذ هذه المشاريع وكيفية استفادتها منها، قال الخبير الإيطالي إن “هناك حاجة، في هذا السياق على وجه الخصوص، إلى مزيد من التنسيق بين الشركات الخاصة والمؤسسات العامة في مواجهة سلسلة من العوامل التي تؤثر حتما على جدوى مشاريع الطاقة المتجددة، وفي مقدمتها استقرار الإطار اللائحي الداخلي وجدوى الاستثمارات في إطار زيادة تكاليفها في التكنولوجيا الخضراء”.
وأضاف أنه “سوف يتعين، على نحو مماثل، على المجموعات والشركات الأوروبية التي ستدخل إلى هذه الأسواق أن تتحلى بقدر أكبر من الإدراك للمخاطر السياسية والاقتصادية التي تنشأ في سياق تغشاه تقلبات كبيرة في السوق كهذه وتوترات جيوسياسية”، مشدداً على أن “تفتيت سلاسل التوريد العالمية ليست ظاهرة عابرة، لذا فإنه يجب أن تتداخل هذه المتغيرات وإدارتها وتحليلها المستمر بشكل متزايد في عمليات صنع القرار في الشركات الأوروبية”.
وفي ما يتعلق بمستقبل التعاون بين الاتحاد الأوروبي ودول شمال أفريقيا في قطاع الطاقة المتجددة، والتأثيرات المحتملة للشراكة بين الطرفين على سوق الطاقة العالمية، رأى الخبير الإيطالي أن “الإمكانيات المستقبلية للتعاون الثنائي بين الاتحاد الأوروبي ودول شمال أفريقيا في هذا القطاع لا تعد ولا تحصى، إلا أن ثمة مخاطر مرتبطة بالاستثمارات التي غالباً ما تفقد قيمتها بسبب نشوب أزمات سياسية جديدة قد تؤدي إلى تكاليف باهظة، سواء من وجهة نظر صناعة الطاقة أو لأمن الطاقة للبلدان الشريكة ذاتها، وفقاً للخبير الإيطالي.
وخلص ساسّي إلى أن “الطاقة المتجددة بإمكانها رفع مستوى الأمن من خلال تنويع المصادر والاستهلاك، وتأسيس علاقات اعتمادية إقليمية جديدة. وأضاف: “أكرر، لن نتمكن من ضمان التحول وتحقيق قدر أكبر من أمن الطاقة من دون زيادة الوعي بما تستلزمه هذه العلاقات الاعتمادية، سواء من وجهة النظر الاقتصادية الطاقية أو السياسية الدولية”.