رايرأي

النزعة الشوفينية الإسرائيلية المتمادية في التعاطي مع قضية الأسرى!

التباكي الإسرائيلي هو جزء من عقلية الضحية التي تستمرّ “إسرائيل” في بيعها للعالم عبر رواية “أنّ أسراها يتعرّضون للإيذاء والاغتصاب”، لذلك “يجب أن يتمّ الإفراج عنهم فوراً لإنهاء معاناتهم”.

كتب محمد هلسة, في “الميادين” :

مرة أخرى يعود إلى الواجهة الجدل حول الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة في غزة وتعود هذه القضية إلى جدول أعمال المجتمع الإسرائيلي ويحتد النقاش حولها في أعقاب الفيديو الأخير الذي نشرته حماس للأسير الإسرائيلي لديها عيدان ألكسندر. هذه المرة، ربما يختلف هذا الفيديو عما سبق ونشرته المقاومة من مواد مرئية ومسموعة حول الأسرى الإسرائيليين لديها في أمرين أساسيين؛ أولهما: سياقاته وتوقيته، وهو ما لا تسعى هذه المقالة لتناوله، وثانيهما، والأهم، هو مضمونه. فاختيار المقاومة لأسيرٍ يحمل الجنسية المزدوجة (الأميركية ـــــ الإسرائيلية) فيه رسالة ضغط واضحة موجّهة لطرفين يتبنّيان المواقف المرجعية ذاتها فيما يتعلّق بقضية الأسرى الإسرائيليين، في محاولة من المقاومة الفلسطينية لتسريع التوصّل إلى صفقة تبادل تضمن انسحاب “جيش” الاحتلال الإسرائيلي من القطاع وإنهاء الحرب.

أما المسألة الأخرى ذات الصلة بمضمون الفيديو، فهي أن الأسير عيدان ألكسندر تصرّف بانفعال وعفوية من دون قيد فبكى وأظهر ضعفاً وانهياراً لافتاً لاقى تفاعلاً واسعاً جداً في الداخل الإسرائيلي، لدرجة أن هذا الفيديو، بخلاف سابقيه، انتشر بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام إسرائيلية متنوّعة، بل وخارج حدود الجغرافيا الفلسطينية، حتى قيل بأن الرئيسين الأميركيّين، المُغادر بايدن والقادم ترامب، اطّلعا على مضمونه.

يبدو أنّ مَردّ هذا التفاعل الواسع مع هذا الفيديو تحديداً يعود في الأساس، ومن دون إغفال أثر غيره من العوامل، إلى نظرة المجتمع الإسرائيلي إلى ذاته ومشاعره وانفعالاته وكينونته البشرية “الشيفونية” المختلفة عن بقية البشر. ورغم دعوات الأنسنة العالمية بأبعادها، ومواثيق حقوق الإنسان بجملتها وتفصيلها ما زالت “إسرائيل” تعيش حالة من الشيفونية المتعالية، التي أساسها تعظيم الأنا الفردي والقومي والوطني، وإفراط الاعتداد بالتفوّق العرقيّ، والذات القومية، والاستكبار على الآخرين، ورؤية النفس فوق؛ وهي باختصار حالة تُعبّر عن لحظات الزهو والغرور والعنجهية.

هذه النظرة المتمادية التي “تفوق مستوى المشاعر الإنسانية العامّة” تقود إلى أن يتعاطى المجتمع الإسرائيلي بشكل حسّاس جداً مع انفعالات أسيره في هذا الفيديو، مُستنداً إلى أن الحالة الصحية والنفسية التي يعيشها هو وغيره من الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة هي حالة “قاسية وفظيعة جداً” وفق ما تَبدّى من انفعالات وأقوال الأسير الإسرائيلي عيدان ألكسندر. وبالتأكيد لا ينطلق هذا التعطاف والجدل الإسرائيلي الداخلي، وفق مُركّب النفسية الإسرائيلية، من الظروف القاسية المُميتة التي خلقتها حرب “إسرائيل” التدميرية على قطاع غزة وسكانه وحرمانهم من مقوّمات الحياة الإنسانية الأساسية، فليست الحرب هي السبب في وصول هؤلاء الأسرى إلى هذه المرحلة من المعاناة كما هو حال باقي أهالي القطاع، إنما ينطلق من النظرة الاستعلائية التي تقوم على أن الأسرى الإسرائيليين يعيشون في “جحيم” خَلَقته أخلاق الفلسطيني وسلوكه “اللإنساني” مع الأسرى الإسرائيليين؛ فهو، أي الفلسطيني، “يقوم بعمليات اغتصاب واعتداءات جنسية على الأسرى والأسيرات الإسرائيليين، وهو متهمٌ بكلّ الفظائع التي يمكن للعقل البشري أن يتخيّلها تجاههم”.

هذا “إسقاط” مُبرّر ومفهوم ومُستسهل، من وجهة نظر إسرائيلية أمام شعب نزعت “إسرائيل” عنه صفة الإنسانية ووسمته بأنه “حيواني”، وما دام كذلك “يمكنه أن يمارس مع أسراها كلّ سلوك حيواني بعيداً عن القيم الإنسانية”! والإسقاط الذي يمارسه المجتمع الإسرائيلي في هذه الحالة هو حيلة دفاعية من حيل دفاع الأنا النفسية، ينسب بمقتضاها إلى غيره ميولاً وأفكاراً ليست فيه، وهي عملية هجوم يحمي بها نفسه بإلصاق عيوبه ونقائصه ورغباته المستهجنة بالآخرين، كما أنها عملية لوم للآخرين يعزو لهم بوساطتها أو عن طريقها سلوكيات وأحاسيس ومشاعر مكبوتة داخله لكنه لا يعترف بوجودها في نفسه. فالكاذب يتهم معظم الناس بالكذب، والإسقاط قد يؤدي إلى عدوان مادي في صورة جرائم، فالمستعمر الذي يحمل مشاعر عدوانية نحو الشعب الذي يحتله قد يُسقط هذه المشاعر عليه ويتصوّر أنه يكيد له ويتربّص به لكي يؤذيه ومن ثم يبادر بالهجوم والاعتداء عليه.

وإلى جانب الإسقاط تمارس “إسرائيل” كذلك التبرير، وكلاهما حيل دفاعية؛ فالإسقاط عملية دفاع ضد الآخرين في الخارج، أما التبرير فهي عملية كذب على النفس، وكلاهما يكشفان خفايا وحقيقة الشخصية الإسرائيلية، التي تُخفي نزعاتها العدوانية، وحتى تخفّف من أثر عدوانيتها فإنها تنسب هذه النزعات العدوانية والجنسية إلى الفلسطيني، ولا شعور الإسرائيلي يقول: “إنهم هم الذين يميلون إلى العدوان وهم الذين يعتدون على الأسرى الإسرائيليين وهم وحدهم……لا أنا”.

صحيح أنها مقاربة مستعلية ومقزّزة، لكنها تُعبّر مرة أخرى عن التناقض الفظّ الصارخ الذي تعيشه النفسية الإسرائيلية، ففي حين ثَبُت أن آلاف الأسرى الفلسطينيين لدى “إسرائيل” ومن خلال شهادات وقرائن تحدّث عنها الإعلام الإسرائيلي ومنظّمات مجتمع مدني إسرائيلية، وبَثَ جُزءٌ منها الإعلام الإسرائيلي، تعرّضوا لعمليات اعتداء جنسي واغتصاب وممارسات وحشية فظيعة جداً عزّزتها الأدلة والقرائن البينيّة، يستمرّ الإسرائيليون بممارسة “الإسقاط” عبر الادّعاء بخزعبلات قائمة على أوهام لا أساس لها من الصحة “أن الأسرى الإسرائيليين يتعرّضون لاعتداءات جنسية وفظائع على يد المقاومة”!.

ولعل أكبر الشواهد التي نسفت هذه “السردية المريضة” أن كّل مادة دعائية خرجت من طرف المقاومة حول الأسرى الإسرائيليين لديها بدى واضحاً فيها بشكل لا تشوبه شائبة بأن هذا الأسير أو تلك الأسيرة قد حظوا بمعاملة طيبة إنسانية أخلاقية تَبدّت في ملامح وجوههم وفي نظافتهم الشخصية وفي سلامة صحتهم الظاهرة للعيان، على النقيض السافر من آلاف الحالات لأسرى فلسطينيين خرجوا من السجون الإسرائيلية وقد تبدّى الأذى والتنكيل في أجسادهم الهزيلة المعتلة وفي ملامح وجوهههم التي أرهقها التعذيب والقهر والأمراض بسبب غياب النظافة الشخصية، بما يؤكد أنهم كانوا يعيشون ظروفاً حياتية قاسية جداً وعوملوا معاملة دون مرتبة البشر، وهذا ما لم يخجل الوزير المتطرّف بن غفير، المسؤول المباشر عن السجون الإسرائيلية، من المفاخرة في إنجازه في عهده، ناهيك عن عدد الشهداء الذين ارتقوا من الأسرى الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر حتى اللحظة، والذي بلغ 47 شهيداً فناهز في نسبته أضعاف ما شهدته مراحل صراع سابقة مع هذا الاحتلال، فقد أعلنت هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين الفلسطينيين، قبل يومين عن ارتقاء أسيرين من قطاع غزة لم يكونا يعانيان من مشكلات صحية قبل الاعتقال إنما ارتقيا، كما غيرهما الكثير، تحت وقع التعذيب والإيذاء الذي تمارسه سلطات مصلحة السجون الإسرائيلية وشرطة “إسرائيل” وأجهزة استخباراتها أثناء الاعتقال والتحقيق.

هذا التباكي الإسرائيلي هو جزء من عقلية الضحية التي تستمرّ “إسرائيل” في بيعها للعالم عبر رواية “أنّ أسراها يتعرّضون للإيذاء والاغتصاب”، لذلك “يجب أن يتمّ الإفراج عنهم فوراً لإنهاء معاناتهم” في حين أن الشواهد تؤكّد أن “إسرائيل” هي التي تمارس الإيذاء والتعذيب والتوحّش اليومي بحقّ الأسرى الفلسطينيين في سجونها وهو غيض من فيض مما وثّقته مؤسسات حقوقية وجهات دولية مختلفة، والمتوقّع أن المقبل سيكشف عن فظائع أُخرى ارتُكبت بحقّ الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. هذا الى جانب تضخيم الحديث عن الفترة الزمنية “الطويلة” التي مرّت على وجود الإسرائيليين في الأسر بوصفها “الأزل”، في مقابل تجاهل غياب الأسرى الفلسطينيين في غياهب السجون الإسرائيلية لعقود طويلة، حتى مضى على كثيرٍ منهم ربع قرن أو يزيد في سجونها.

تميل “إسرائيل” إلى النظر لأسراها “كضحايا” لتصرّفات سلبية غير إنسانية تصدر عن الفلسطينيين، والتفكير والتحدّث والتعامل كما لو أن هذا الأمر مسلّمٌ به، حتى في حال غياب وجود أدلة دامغة عليه، وهي تتعمّد استثارة التعاطف من خلال سرد قصص مبالغٌ فيها حول التصرّفات السيئة التي قام بها الفلسطينييون مع أسراها عبر الخوض في مناقشات وجدل معقّد لدعم هذه الخزعبلات، التي تستخدمها بعد ذلك لإقناع نفسها والآخرين بحالة الضحية التي هي فيها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى