بعدَ البرلمانِ.. ملامحُ الحكومةِ العراقيةِ المقبلةِ

كتب د. خالد قنديل في صحيفة بوابة الأهرام.
انتهتِ الانتخاباتُ البرلمانيةُ العراقيةُ، لكنَّ النتائجَ وحدَها لا تكفي، فمرحلةُ ما بعدَ الاقتراعِ عادةً ما تُدارُ بحساباتٍ سياسيةٍ، وتحالفاتٍ تحدِّدُ ملامحَ السلطاتِ الدستوريةِ. ومنْ مجلسِ النوابِ تكونُ بدايةُ رحلةِ تكوينِ السلطةِ، حيثُ تُعقدُ جلسةٌ برئاسةِ أكبرِ الأعضاءِ سنًّا، ويُنتخبُ خلالَها رئيسُ البرلمانِ ونائبُهُ، إيذانًا ببدءِ الدورةِ الجديدةِ. وينتقلُ العراقُ إلى مرحلةِ التفاوضِ لتشكيلِ الحكومةِ، ووفقَ الدستورِ، يختارُ البرلمانُ رئيسَ الجمهوريةِ والمجلسَ الرئاسيَّ، ثمَّ يكلِّفُ “أكبرَ كتلةٍ نيابيةٍ” ترشيحَ مرشَّحِ رئاسةِ الوزراءِ لتشكيلِ الحكومةِ.
عمليًا، لا يكفي حصولُ كتلةٍ معيَّنةٍ على المركزِ الأولِ في البرلمانِ لتتمكَّنَ تلقائيًا منْ تشكيلِ الحكومةِ. فالتوازنُ بينَ مكوّناتِ الشعبِ العراقيِّ (شيعة، سُنّة، كرد، أقليات) وتفاعلاتِ التحالفاتِ، بالإضافةِ إلى الضغوطِ الإقليميةِ والدوليةِ، تجعلُ عمليةَ التشكيلِ غالبًا معقَّدةً وطويلةً. وقدْ أظهرتْ نتائجُ انتخاباتِ 2025 أنَّ ائتلافَ الإعمارِ والتنميةِ بقيادةِ محمدِ شياعِ السودانيِّ تصدَّرَ المقاعدَ، غيرَ أنَّهُ لمْ يحقِّقْ أغلبيةً تمكِّنُهُ منْ تشكيلِ الحكومةِ بمفردِهِ. وهذا الواقعُ يفتحُ البابَ لسيناريوهاتٍ عدَّةٍ ممكنةٍ لتشكيلِ الحكومةِ المقبلةِ، كلٌّ منها يحملُ تبعاتٍ مختلفةً على سياسةِ العراقِ ومستقبلِهِ السياسيِّ.
أولُ السيناريوهاتِ وأقربُها تجديدُ ولايةِ السودانيِّ، ليقودَ محاولتَهُ الثانيةَ لتشكيلِ الحكومةِ، عبرَ تحالفٍ موسَّعٍ يشملُ كتلًا سُنيَّةً وكرديةً، وربما أقلياتٍ، وقوى شيعيةً داعمةً، ممَّا يضفي أغلبيةً مُرضيةً في مسارٍ يُغري الأطرافَ التي تنشدُ الاستقرارَ وتتجنَّبُ مساراتِ الفوضى المرهقةِ في حالِ فراغٍ رئاسيٍّ. ولعلَّ هذا المسارَ الأقربُ للمصلحةِ الوطنيةِ العراقيةِ واقعيًا، استنادًا إلى نجاحِ هذهِ الحكومةِ في العديدِ منْ الملفاتِ التي أعادتْ للعراقِ بريقَهُ وتوازنَهُ، وهوَ البلدُ الذي ترنَّحَ فوقَ حلبةِ الصراعاتِ لوقتٍ طويلٍ، واستفاقَ أخيرًا معَ السودانيِّ ورجالِهِ عبرَ سياساتٍ حرصتْ على تعزيزِ الاستقرارِ وتحقيقِ التنميةِ، وهوَ ما بدا في مؤشراتٍ عمليةٍ كالاهتمامِ بالمشروعاتِ التنمويةِ مثلَ رفعِ إنتاجِ البلادِ منَ الكهرباءِ، وتطويرِ شبكاتِ الطرقِ والجسورِ والكثيرِ منَ المشروعاتِ الكبرى، فضلًا عنِ الأساسِ الذي ينشدُهُ شعبُ العراقِ في القدرةِ على تحقيقِ استقرارٍ أمنيٍّ في ظلِّ العواصفِ التي تموجُ بها المنطقةُ، وتعزيزِ العلاقاتِ الإقليميةِ والدوليةِ، القائمةِ على الوقوفِ منَ الجميعِ على مسافةٍ واحدةٍ وتوازنٍ وإقامةِ العلاقاتِ على أساسِ احترامِ سيادةِ العراقِ ووضعِ مصلحتِهِ في المقامِ الأولِ. أيْ نجاحِ هذهِ الحكومةِ في إدارةِ التنوعِ الداخليِّ دونَ إقصاءٍ، ومسكِ العصا منَ المنتصفِ في العلاقاتِ العراقِ بمحيطِهِ وخارجِهِ، والقدرةِ على حمايةِ القرارِ الوطنيِّ منْ أيِّ محاولاتٍ للضغطِ أوِ التوجيهِ، ومِنْ ثمَّ سدِّ جميعِ الثغراتِ التي تتسلَّلُ منها القوى التي تبحثُ عنْ نفوذٍ لها سواءً في الأرضِ أوْ في السياسةِ والاقتصادِ وأوجهِ الحياةِ العراقيةِ.
إنَّ ما ستشهدُهُ بغدادُ خلالَ المرحلةِ المقبلةِ لنْ يكونَ مجرَّدَ مفاوضاتٍ عاديةٍ لتشكيلِ حكومةٍ، لكنَّهُ يمثِّلُ اختبارًا حقيقيًا لقدرةِ النظامِ السياسيِّ العراقيِّ على التكيُّفِ معَ متغيِّراتِ الداخلِ والخارجِ في الوقتِ ذاتِهِ، معَ استمرارِ مطالبِ الإصلاحِ بعدَ سنواتٍ منَ الأزماتِ الأمنيةِ والخدميةِ والاقتصاديةِ، والتطلُّعِ إلى تغييرٍ ملموسٍ، الأمرُ الذي يضعُ المسئوليةَ كاملةً فوقَ كفَّةِ القوى السياسيةِ لتشكيلِ حكومةٍ مُجرَّبةٍ ومقبولةٍ وقادرةٍ على الأداءِ الفارقِ، بعيدًا عنْ فكرةِ توزيعِ المناصبِ بمحاصصةٍ أوِ اعتباراتٍ غيرِ ضمانِ الإصلاحِ.
ولقدْ أثبتتِ التجربةُ السياسيةُ العراقيةُ في السنواتِ الماضيةِ، قدرةَ حكومةِ السودانيِّ على اكتسابِ فكرةِ التوافقيةِ، منْ واقعِ إنجازاتِها على الأرضِ التي تصدَّتْ لجميعِ التحدِّياتِ وربما أخطرِها ملفُّ الطائفيةِ والفُرقةِ، واستطاعتْ أنْ تحقِّقَ التوازناتِ في جميعِ الملفاتِ تقريبًا. وفي ظلِّ تمتعِ المجتمعِ العراقيِّ بكلِّ طوائفِهِ بدرجةٍ منَ الوعيِ اكتسبَها في مخاضِ المعاركِ والأزماتِ، فإنَّ قبولًا واسعًا لاستكمالِ المسيرةِ قدْ يحظَى بهِ السودانيُّ ورجالُهُ، في سبيلِ منحِهِمْ فرصةً أكبرَ تساعدُ على ذلكَ.




