رأي

السودان.. أما آن لليل أن ينجلي؟

كتب علي عبدالله الأحمد, في الخليج:

قبل أيام وبعد يومٍ دراسي طويل، دخلت ابنتي روضة إلى المنزل وتبدو عليها ملامح الانزعاج. وضعت حقيبتها على الطاولة وقالت بصوت متردد: «أبويه… في المدرسة يقولون إن الإمارات لها دخل في الحرب في السودان. وشفت فيديوهات خوّفتني…»
شعرت بالتوتر للحظة أمام سؤالها البريء والعميق في الوقت ذاته. ليس لأنني لا أملك الإجابة، بل لأنني أدركتُ حجم الرسائل والفيديوهات الذي تتعرض له هذه الأجيال، والكم الهائل من المعلومات المضللة المتدفقة عبر هواتفهم من دون رقابة أو وعي. تخيّلت الجو العام في المدرسة، والتي أغلب الطلاب فيها من غير المواطنين، وكل منهم يحمل رأياً أو فيديو شاهده، وربما يردِّده ويشارك أصدقاءه. وحين يتعلق الأمر ببلد مثل السودان، بتاريخ علاقاته العميقة معنا، يصبح التضليل أكثر ألمّاً.
جلستُ قرب روضة، وحاولت أولاً أن أهدّئ خوفها. قلت لها: يا بنتي، ليس كل ما يُنشر صحيحاً. في الإنترنت اليوم، 30 ثانية من فيديو قد تهدم تاريخ 50 سنة من العلاقات الطيبة.
لكنني كنت أعرف أن حديث الأب إلى ابنته اليوم، سيتحوّل غداً إلى حجّة ستدافع بها داخل فصلٍ مليء بالآراء المتضاربة. الفيديوهات المفبركة تنتشر بسهولة، وخصوصاً بين المراهقين الذين لم يعيشوا تلك المراحل ولم يعرفوا سياقها، فيصبح من السهل أن يصدّقوا الأسهل والأسرع.
بدأت أحكي لها عن قصة العلاقات بين الإمارات والسودان، لا كما تقدّمها بعض الحسابات مجهولة الهوية، بل كما عاشها أهل البلدين على مدى نصف قرن.
منذ قيام الاتحاد، كان السودانيون أول من لبّى النداء في مرحلة التأسيس. جاؤوا مهندسين وأطباء ومعلمين وقضاة، وكان لهم دور أساسي في بناء مؤسسات الدولة الحديثة. كبار البلديات في السبعينات والثمانينات كان يديرها مهندسون سودانيون. في الوزارات، في المحاكم، في الجامعات، في المدارس… السودانيون كانوا جزءاً من قصة نجاح الإمارات.
قلت لروضة: يا بنتي، نحن لا نتحدث عن عشرات… بل عن مئات الألوف من السودانيين الذين عاشوا بيننا لسنوات طويلة. هؤلاء يعرفون الإمارات وأهلها، ويعرفون أننا نبادلهم احتراماً بمحبة، ووفاءً بوفاء.
ومن المعروف أنه حين تراجعت العلاقات السياسية خلال فترة حكم عمر البشير بسبب سيطرة تيار «الإخوان المسلمين»، لم يتغير جوهر الموقف الإماراتي تجاه الشعب نفسه. السياسة تتبدل… أما الأخوة فلا. والدليل أننا لم نتأخر يوماً عن دعم السودان عندما اشتدّت عليه المحن.
دعم الإمارات لصندوق الأمم المتحدة لإغاثة السودان. ليس من أجل سياسة، ولا مكسب، ولا نفوذ… بل من أجل الإنسان السوداني البسيط الذي يستحق حياة كريمة بعيداً عن الحرب والجوع والخوف.
أما إجمالي المساعدات التي قدمتها الإمارات للسودان خلال السنوات العشر الماضية فتتجاوز 3.5 مليار دولار، أرقام لا تكتبها الدعاية، بل توثقها المؤسسات الدولية.
نظرتُ إلى روضة وقلت لها «نحن يا بنتي نريد الخير للسودان. الإمارات ما كانت يوماً بلداً يصنع حرباً، بل بلد يصنع سلاماً. ولو رأيتِ السودانيين بيننا اليوم، في المدارس، والجامعات، والمستشفيات، والأسواق، لعرفتِ أنهم ليسوا ضيوفاً، بل أهلاً وامتداداً طبيعياً لهذا الوطن».
شرحت لها أن من يحب السودان حقاً لا يمكن أن يتمنى له إلا الأمن والاستقرار. وأن وجود السودان قوياً وموحداً هو مصلحة للجميع، وأن الإمارات – منذ نشأتها – لم تتدخل يوماً لإشعال نار في بلد عربي، بل كانت دائماً أول من يطفئها.
ثم قلت لها: غداً في المدرسة… لا تجادلي بغضب، ولا ترفعي صوتك. بل تحدثي بثقة: نحن في الإمارات نمد يدنا لكل محتاج، ونقف مع الشعوب، لا مع الحروب. والسودانيون يعرفون ذلك، لأنهم عاشوه معنا لا لأنهم شاهدوه على شاشة موبايل.
ابتسمت روضة، وكأن جزءاً من خوفها زال. وربما لم تفهم كل تعقيدات السياسة، لكنها فهمت أهم شيء: أن الإمارات بلدٌ وُلد ليبني، لا ليهدم… وأن علاقتنا مع السودان علاقة محبّة امتدت لجيلها، وستمتد لجيل أبنائها.
أدركتُ في تلك اللحظة أن حماية الحقيقة لم تعد مسؤولية الإعلام وحده، بل مسؤولية الآباء… لأن أبناءنا سيعودون غداً إلى مدارسهم، وسيحمل كل واحدٍ منهم صورة عن وطنه، إما نبنيها نحن… أو سيبنيها لهم شخص مجهول خلف شاشة صغيرة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى