هل ينتهي الصراع السياسي في أديس أبابا؟
كتب طارق الشيخ, في “العربي الجديد:
تحرّكات لافتة واختراق مُهّم وكبير قاده رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد بلقائه رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتّاح البرهان في بورتسودان. أعقبت ذلك المحادثة الهاتفية بين رئيس الإمارات محمد بن زايد والبرهان. وأخيراً ما تردّد عن لقاء مُرتقبٍ يجمع الثلاثة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. تأتي هذه التحرّكات ضمن سياق عام داخلي شهد تصاعداً ملحوظاً في العمليات العسكرية في السودان، وتردّياً مأساوياً في الوضع الإنساني، ومجاعة تطرق الأبواب بشدّة.
عسكرياً، تحقّقت انتصاراتٌ متتاليةٌ لقوات الدعم السريع، وسقطت مدن عدّة جديدة مُهمّة مع انسحاباتٍ مُتكرّرة للجيش أظهرته بمظهر الضعيف، وسبّب ذلك نزوح المواطنين إلى الشرق في القضارف وكسلا. سياسياً، جرى، أخيراً، لقاء القاهرة المُهمّ بمشاركة واسعة من قوى تقف ضدّ الحرب بقيادة “تقدّم” (تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية)، أو مُؤيّدة لها من أنصار النظام القديم. تشير هذه التحرّكات المُتعدّدة، عسكرية ومدنية، إلى أنّ ثمّة تزحزحاً عن المواقف الحدّية في صيغة مع وضدّ، وتوجّه نحو إيجاد مَخرَجٍ أكثرَ رحابةً لوقف الحرب؛ ذلك أنّ الحرب، وفقاً لمسارها الراهن ولتوقّعات كثيرين، تقود إلى احتمال انهيار الجيش وسقوط الدولة التام. عامل آخر، استشعار الجميع أنّ المجاعة باتت حقيقةً ماثلةً وسوف تتّسع رقعتها لتطاول الجميع، فقد طرقت آخر المعارك المعاقل الكُبرى لإنتاج الغذاء لغالبية أهل السودان ودول الجوار، في سنار وسنجة والدمازين، ثمّ القضارف.
تحقّقت انتصاراتٌ متتاليةٌ لـ”الدعم السريع”، وسقطت مدن عدّة مع انسحاباتٍ مُتكرّرة للجيش أظهرته بمظهر الضعيف
…، ما الذي يجعل أبي أحمد يتحدّث مُطوّلاً أمام برلمان بلاده عن السودان، ثمّ يُنفّذ وعده سريعاً للبرلمان ويلتقي البرهان؟… أسباب ذلك أنّ الحرب تقترب من الحدود الإثيوبية المجاورة، وهناك أعداد كبيرة من اللاجئين الذين دخلوا إثيوبيا مع بداية الحرب، جاؤوا إليها من الخرطوم، وترتّبت من ذلك كارثة إنسانية لم تحلّ. فإذا ما أضيفت إليهم أعداد أكبر فسيكون هذا مصدر قلق حقيقي للحكومة، ويعني مزيداً من الاضطراب في إقليمَي أمهرة وتغراي المُضطربَين. والمحصّلة مزيدٌ من زعزعة الاستقرار في إثيوبيا، ومزيدٌ من الإنفاق العسكري بكلّ ما يعنيه من تعطيل لعجلة التنمية المُستهدَفة في إثيوبيا. ولذا، يستغل أبي أحمد علاقته الممتازة مع محمد بن زايد، وعلاقة الجوار التقليدية مع السودان، ليدخل خطّ حلّ الأزمة. يُقدِمُ على هذه الخطوة وهو يدرك تماماً العلاقةَ القويةَ التي تربط عبد الفتاح البرهان مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ويُدرك ممالأة البرهان مصر في ما يتعلّق بقضية سدّ النهضة، وبدرجة سمح فيها بوجود قوّة مصرية في قاعدة مروي التي تجعل الأهداف داخل إثيوبيا في المتناول. أضف إلى ذلك أنّ أبي أحمد وبن زايد يتّفقان في نظرتهما السلبية إلى النظام القديم في السودان بقيادة الإخوان المسلمين.
الإمارات على علاقة شخصية قويّة مع البرهان، سابقة للحرب والهجوم العنيف الذي ظلّ يشنّه نائب البرهان، الجنرال ياسر العطا، وتطاوله على حكّام أبوظبي. ترتكز علاقة الإمارات مع البرهان على عطايا شخصية وتجارة في الذهب، شأن غيره من كبار قادة الجيش السوداني، والمتنفّذين من نظام عمر البشير، الذين يتمتّعون بعلاقات “بيزنس” قوية مع الإمارات، ما يعني أنّ الأخيرة تملك أوراقاً قويّة في مواجهة البرهان وقيادات لديه. هذا يُفسّر لكثيرين صمت البرهان، وعدم تصريحه بأي قولٍ ضدّ حكّام الإمارات، تاركاً ذلك لنائبه. ويعلم كلٌّ من بن زايد وأبي أحمد أنّ البرهان يتحرّك بأمر الإخوان المسلمين، ولذا يلعبان في آخر توجّه لهما مُستندَين إلى أوراق قوية تحاول نزع مخاوف البرهان من الإسلاميين، الذين يعمل في خدمة أهدافهم. ولعلّ البرهان وحده بين الثلاثي المذكور، الذي ينتابك إحساسٌ بأنّه لا له في الحرب ولا في الجدل السياسي الدائر. بكلمة أخرى، إنّه مغلوب على أمره، والدلائل على ذلك كثيرة.
سيحمل حضور البرهان إلى أديس أبابا مُؤشّرات ومتغيّرات مُهمّة لها ما بعدها في صعيد الحرب والسلام
لم يخاطب البرهان الشعب السوداني رجلَ دولةٍ يُطلِعه على حقيقة ما يدور. كما أن أفعاله تدلّ عليه، فهو يعلم أنّه نفّذ الانقلاب خدمة للإخوان المسلمين وللنظام القديم، وأعاد إليهم ما انتزعته منهم ثورة ديسمبر (2019). وأغلب تصريحات البرهان المُهمّة تأتي من سرادق عزاءات أو في مناطق لاعلاقة لها بأرض المعارك، أو في أثناء وجوده بين الجنود، أو في مركز قيادته.
الأرجح، وفقاً لجديد التحرّكات السياسية، أن أديس أبابا ستكون المكان الملائم للقاء الثلاثي. والأرجح كذلك أنّ البرهان إذا ما حضر سيكون قد أعلن انعتاقه الشخصي من قبضة الإخوان المسلمين. وهذا سيقرّبه من قبول فكرة إنهاء الحرب، واتخاذ موقفٍ مختلفٍ عن رؤية التنظيم، الذي استبقه بتهديداتٍ عبر المنصّات التابعة له في وسائل التواصل. كما أنّ الطرف الآخر، أي محمد حمدان دقلو، قد أبدى، وباستمرار، موافقةً غيرَ مشروطةٍ لوقفها. لذا، سيحمل مُجرّد حضور البرهان إلى أديس أبابا مُؤشّرات كثيرة ومتغيّرات مُهمّة سيكون لها قطعاً ما بعدها في صعيد الحرب والسلام، ومستقبل السودان، وأيضاً مستقبل البرهان الشخصي، الذي ربّما يكون مستقرّه الأخير في الإمارات نفسها.