باسم المرعبي: ناشر موقع رأي سياسي…
19 عاماً والخسارة مستمرة، 19 عاماً والجرح لم يندمل، 19 عاماً وما زال كثيرون يقولون “يا ريت الزمن بيرجع وبيوقف قبل اغتيال رفيق الحريري”، يوم إستشهاد الحريري قيل أنّ اللّبنانيين لن يشعروا بفداحة الخسارة إلا بعد مرور سنوات على هذا الاغتيال واليوم تتأكد المقولة، فالوطن الذي حلم به الرئيس الشهيد يغرق في بحر من المآسي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمعيشية.
الحزن أكبر هذا العام في قلوب كلّ محبّي الرئيس الشهيد وكل أبناء الحريرية السياسية التي أسدلت الستار على حقبة طويلة من العمل السياسي، لذلك قرورا المضي بحملة “مش رح نخليك تفل”، علهم يستطيعون ثني نجله رئيس الحكومة الاسبق سعد الحريري عن قرار مغادرته لبنان بعد الاحتفال بالذكرى 19 لرحيل والده.
صرخة أنصار الحريري هي بمثابة رسالة واضحة ومعلنة منهم الى زعيمهم السنّي والوطني، أنّ عودته باتت اليوم حاجة وضرورة أكثر من أي وقت مضى، آملين أنّ تلقى محاولتهم هذه صدى إيجابيا في نفس الحريري، فيتراجع عن موقفه بتعليق عمله السياسي.
اللافت أنّه ليس أنصار الحريري فقط هم الذين يُصرّون على عودته الى لبنان، واستعادة دوره كزعيم سني ومزاولة عمله السياسي، بل ايضا من بعض الذين كانوا قد تحولوا خلال فترة حكمه الى أشرس المهاجمين له، أما بعد غيابه عن العمل السياسي إشتاقوا له، وهذا ما جاء على لسان النائب ألان عون عضو تكتّل “لبنان القوي”، حيث غمز في مجلس النوّاب من قناة هذه العودة عندما قال إن “الخروج من الوضع المقفل الذي نعيشه يتطلب ذهنية التسويات”، مضيفاً: “هنا استذكر الرئيس سعد الحريري الذي نفتقده كثيراً في هذه الايام، ويجب ان نعترف بشجاعته وجرأته على فتح الثغرات وانتاج تسويات باللحظات الحاسمة كما قدم مرتين عام 2016″، علماً بأنّ التسوية مع الحريري التي أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية لم تُستكمل، حتى انّ العلاقة بينه وبين “التيّار الوطني الحرّ” كانت قد وصلت الى الخصومة، أما اليوم فيبدو أن ثمّة إشارات وقبولا داخليا بهذه العودة، في ظلّ عدم القدرة داخل الطائفة السنية عن إفراز زعامة سنيّة جديدة تكون خلفاً للحريرية السياسية.
فالحريرية السياسية لم تأت من يوم أو يومين، بل أسس لها الرئيس الشهيد على طوال فترة حكمه، حيث ساهم بشكل كبير في إعمار لبنان بعد الحرب الأهلية، وقد شكل اغتياله عام 2005 محطة فارقة، إذ دخلت البلاد في أزمة سياسية بعد انقسام الأحزاب إلى موالاة ومعارضة، حظي كل منهما بدعم أطراف إقليمية.
الشهيد الحريري كان بمثابة حامل كلمة السر في فتح الأبواب لبلاده أمام تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات العربية والأجنبية، وتشجيع دول الخليج والولايات المتحدة وأوروبا على المشاركة الفورية في إعادة إعمار ما دمرته الحرب الأهلية والتي بلغت تكلفتها آنذاك أكثر من 3 مليارات دولار.
لم يغفل الحريري عن الطابع الانساني والاجتماعي، حيث كان يتبرع بكثير من أمواله ويستثمرها داخليا في وقت لم يكن فيه أحد يهتم بذلك، حتى انه تكفل بتعليم 30 ألف طالب لبناني بالداخل والخارج، وأنفق ملايين الدولارات لإعادة إبراز ملامح الهرمية الاجتماعية في البلاد، وسهلت خطة التعليم التي تبناها من تكوين طبقات اقتصادية متساوية في البلاد.
من يراقب مسار عمل الرئيس الشهيد، يتأكد ان الحريري لم يكن مجرد شخصية سياسية، ولا رجل أعمال من العيار الثقيل، أو رجل علاقات دولية وإقليمية متشعبة، بل كان محصلة كل هذه الصفات التي استطاع أن يجمعها في تركيبة إنسانية نادرة، يختلط فيها الفعل السياسي بالصلات الشخصية، بعالم رجال الأعمال، والشعبية الكاسحة.
ظن من اغتال الحريري أن الحريرية السياسية انتهت، غير أن سرعان ما خاب ظنه فبعد عملية الإغتيال التي كانت بمثابة الزلزال الكبير دخل نجله سعد الحريري معترك الحياة السياسية لكن طريقه لم يكن مفروشا بالورود؛ فقد كان على الابن المصدوم باغتيال والده أن يسير في حقل ألغام الداخل اللبناني.
وعقب 14 سنة من العمل السياسي، تخللها ترؤسه ثلاث حكومات، وجد الحريري نفسه في “طريق مسدود” أجبره على الاستقالة استجابة لمطالب الشارع الغاضب، ورغبة منه في إحداث صدمة إيجابية وتأليف حكومة جديدة.
مما لا شك فيه أن دخول الحريري عالم السياسة لم يكن بإرادته، لكن شعّ نجمه في ما بعد ليصبح أحد أهم أقطاب السياسة اللبنانية، وليتحمّل مسؤولية التركة السياسية لوالده.
وفي أول خطوة، تزعم سعد الحريري تيار المستقبل، وشكل “تكتل قوى 14 آذار” الذي ضم قوى سياسية، من أبرزها تيار المستقبل بزعامته، والحزب التقدمي الاشتراكي، وحزب الكتائب، والقوات اللبنانية، انتخب الحريري عام 2005 نائبا في البرلمان، ثم أعيد انتخابه لدورة البرلمان لعام 2009، وتمكنت “قوى 14 آذار” من الحصول على الأكثرية النيابية في الدورتين.
وفي 27 حزيران 2009 كُلف سعد الحريري من قبل الرئيس ميشال سليمان بتشكيل الحكومة، لكنه واجه صعوبات عديدة ليعلن في العاشر من أيلول من العام نفسه اعتذاره عن تشكيلها.
وعقب إعادة تكليفه من قبل رئيس الجمهورية، وجولة حوارات ومفاوضات شاقة مع مختلف التيارات السياسية؛ استطاع الحريري أن يعلن تشكيل حكومته الأولى بتاريخ التاسع من تشرين الثاني 2009.
في كل مرة يشكل الرئيس الحريري الحكومة والتي كان آخرها في العام 2019 كان يواجه الكثير من العقبات، وعلى الرغم من ابرامه تسوية سياسية حملت الرئيس ميشال عون الى كرسي الرئاسة في بعبدا، الا انه سرعان ما تحولت هذه التسوية بالنسبة الى الحريري كابوساً، حيث تلاشت هذه التسوية ليحل مكانها السجال والمناكفات بين بيت الوسط وقصر بعبدا، بعد ان كانت هذه العلاقة مرت بنوع من المد والجزر، مما أدى الى إعاقة عمل الحكومة في ظل انهيار اقتصادية اطل برأسه على لبنان في العام 2019، وهو بنفسه قال هذه التسويات، التي أتت على حسابي، قد تكون السبب في عدم اكتمال النجاح للوصول لحياة أفضل للبنانيين. والتاريخ سيحكم. لكن الأساس، أن الهدف كان وسيبقى دائما تخطي العقبات للوصول إلى لبنان منيع في وجه الحرب الأهلية، ويوفر حياة أفضل لكل اللبنانيين.
الى جانب ترؤسه اكثر من حكومة نسج الرئيس الحريري علاقات طيبة مع العديد من القوى السياسية التي تدور في فلك 14 اذار وجزء من 8 اذار وفي مقدمهم الرئيس نبيه بري الذي كان دائما يبادر الى محاولة ثنيه عن الاستقالة، وكان الحريري ياخذ بمشورته في بعض القضايا، كما كان رئيس المجلس أول المطالبين بعودة الحريري الى لبنان وممارسة دوره السياسي.
في العام 2022 أعلن الرئيس الحريري تعليق عمله السياسي، وعزوفه عن الترشح للانتخابات البرلمانية المقبلة، لاقتناعه بأن لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي والانقسام الوطني” بحسب ما أعلن في بيانه الصحافي.
اذاً الطريق الذي سار فيه الحريري منذ وقوع الاختيار عليه لاستكمال مشروع والده الشهيد رفيق الحريري عام 2005. كان معبدا بالعقبات والمحن والتحديات، والإخفاقات أحيانا والنجاح أحيانا أخرى، ولكن أبرز ما استطاع الحريري تكريسه خلال فترة حكمه هو الحفاظ على السلم الأهلي وإرساء نهج الاعتدال في وقت كان منسوب الطائفية والمذهبية والاقتتال يتأجج في المنطقة المحيطة بلبنان. فاستطاع إطفاء فتائل الفتن التي أشعلت في لحظات مفصلية من تاريخ البلاد، خصوصا في السابع من أيارمن عام 2008.
وبما ان التجربة الحريرية موجودة في وجدان الناس، فهل يغيّر الحريري الابن موقفه ويعلن فكّ اعتكافه عن العمل السياسي في الذكرى 19 لاغتيال والده؟ أم أنّ عدم تبدّل أي شيء في السياسة سيجعله يتصلّب بقراره هذه المرة أيضا؟