
كتب سعد الله مزرعاني في صحيفة الأخبار.
موضوعياً، تتيح انعكاسات التطورات المتلاحقة في لبنان وفي المنطقة خلال السنة ونصف السنة الماضييْن، «تذكُّر» الحرب الأهلية في لبنان، على نحوٍ أكثر وأخطر مما كان يحصل في السنوات السابقة (باستثناء حادثة الطيونة).
إنها ذكرى «يوبيلية» (قبل خمسين سنة)، مع ذلك لا يزال وقعها وتداعياتها حاضريْن بقوة في الأذهان وفي السلوك!
فالكثير من المواقف، وأحياناً مجمل الخطاب والمفردات، يشير إلى أن أسبابها ما زالت قائمة، وأن مخاطرها لم تصبح شيئاً من الماضي.
لا نشير هنا، حتماً، إلى رغبات المواطنين العاديين في المناطق كافة، ومن معظم التموضعات التقليدية، الطائفية والمذهبية، والتي توجّه شعور ورغبات السواد الأعظم منهم.
هؤلاء لم يتوسّلوا الانقسامات وتغذيتها وتسخيرها، والتبعية وأثمانها، بغية الاستقواء والغلبة، على العكس، هم، بشكل عام، ضحايا الحروب والنزاعات، حتى في الشروط والظروف التي يُستدرج جزء منهم أو معظمهم إلى أن ينخرط في الصراع نتيجة سوء تقدير أو تضليل أو عصبية عمياء، وبما لا ينسجم، حتماً، مع مصالحه الحقيقية.
بيد أن رغبة الناس العاديين بطلب الاستقرار والسلامة والأمن، ليست هي من يقرّر مسار الأحداث.
من يفعل ذلك عادة، فئات ومجموعات، لا تتردّد في اللجوء إلى أسوأ الأساليب، الداخلية والخارجية، وأكثرها ضرراً وإضراراً، من أجل تحقيق أهدافها وخدمة مصالحها.
المشهد، في هذا الحيِّز بالتحديد، من اللوحة العامة، يوحي بأن القديم ما زال على قدمه. بل يمكن اعتبار بعضه أسوأ وأخطر: في تفاعل العاملين الداخلي والخارجي!
أين يكمن مصدر الخلل؟ باختصار وتكثيف: مصدره الأساسي يكمن في الآتي: النظام السياسي اللبناني، كان ولا يزال مولّد الانقسامات والتوترات والأزمات والاحتراب. كان كذلك قبل اتفاق «الطائف»، أي في مرحلة الهيمنة والامتيازات والتبعية واحتكار القرار.
واستمر على هذا النحو بعده، أي في مرحلة بتر الإصلاحات، وتكريس وتعميم التحاصص، وتعدّد الرؤوس في الحكم، كذلك في المرجعيات الخارجية، وفي تشتيت القرار.
وهو نظام «كوتا» طائفية، من خلاله تدير المراكز البرجوازية القديمة والجديدة، شبكة مصالحها عبر منظومة تقاسم وتحاصص للسلطة والنفوذ والثروة الوطنية، من خلال الدولة وبها («مهدي عامل»).
اقترن ذلك بحرص كبير على تظهير لبنان بلداً ذا تركيبة «فريدة» و«عجائبية» تميّزه، ويرتبط وجوده باعتمادها، واستمراره بإدامتها وتوارثها جيلاً بعد جيل. وهي، من أجل ذلك، تقاوم كل محاولة للتغيير مهما كانت بسيطة. وتسهّل كل علاقة بما فيها التبعية والالتحاق والاستقواء، بهدف تثبيت النفوذ أو تعديله، ولو على حساب سيادة الدولة ومصالح شعبها العليا.
يقف خلف ذلك، منذ التأسيس، من يمكن تسميتهم بالنواة الأولى لهذا النظام. هؤلاء اختاروا الارتباط بالغرب إلى درجة الانتماء والولاء الكامليْن. الانتداب الاستعماري دعم مشروعهم ورعى قيامه واستمراره!
إسرائيل في نظرهم جزء من «الغرب»، وهي، بالتالي، موقع حليف لا عدو مغتصب لحقوق شعب بكامله، ومهدّد لمصالح شعوب المنطقة العربية عموماً.
عام 1957 انضم لبنان الرسمي إلى «حلف بغداد» بقرار منفرد من رئيس الجمهورية كميل شمعون. اقترن ذلك بمحاولته مخالفة الدستور والسعي لتعديله.
في خدمة ذلك، زوّر الانتخابات، وأسقط أقطاب البلاد المعارضين لـ«حلف بغداد» وللتمديد المفروض. حصل اعتراض سياسي شبه شامل، وشعبي في معظم المدن والمناطق، فدخلت البلاد في توتر شديد، وأمر الرئيس الجيش بقمع الاحتجاجات، فتردّدت قيادة الجيش وفضّلت الحياد.
سارع شمعون إلى استدعاء الأسطول السادس الأميركي الذي لبّى التدخل دون تردّد! ودخلت البلاد في أزمة توتر وعنف واحتراب استمرت أكثر من ستة أشهر. كان ذلك «بروفة» لما سيحدث عام 1975، حين لم تجد السلطة وداعموها الداخليون والخارجيون، من سبيل للتعامل مع المقاومة الفلسطينية سوى بالعنف، فقاد ذلك إلى حرب أهلية دامت 15 عاماً!!
من استنجد بالاحتلال الإسرائيلي عام 1982، يحاول فريق منه، اليوم، تكرار التجربة مع العدوان الإسرائيلي الراهن، خصوصاً أن هذا العدوان مدعوم كلياً من قبل المركز الاستعماري الغربي الأول، واشنطن التي تدير الآن، استكمالاً للعدوان الإسرائيلي، عملية وصاية مباشرة على لبنان. في تداعي هذه المعادلة الخطيرة، يصبح الضحية هو المجرم، والعكس صحيح أيضاً.
أي يصبح الشعب الفلسطيني، حين يحاول الكفاح من أجل استعادة حقوقه أو بعضها، هو المسؤول عن تهديد الأمن والاستقرار.
ويصبح داعموه، كذلك، شركاء في «الجريمة». هكذا يُصنّف كل اعتراض على الفئوية والتبعية، الممارسة عبر السلطة أو من خارجها، أمراً في نطاق «حروب الآخرين على أرضنا» ومساساً بسيادة لبنان ونظامه المعجزة!
ثمة قوى سياسية تجاهر الآن بتأييد العدوان الإسرائيلي، وبضرورة استمراره حتى القضاء تماماً على الخصم الداخلي، ومن ثم استثماره في القفز على السلطة، كما حدث عام 1982.
هي حتماً لا تأبه بمصير البلد عموماً، وخصوصاً، بمصير من تمثّل: تماماً كما حصل أيضاً عام 1982.
من ناحية ثانية، تزداد المشكلة تعقيداً بمقدار ما أن قوى تنتهج سياسات أخرى مناقضة، تتمسّك هي أيضاً بنظام التحاصص الطائفي. اعتراضاتها تقتصر على التوازنات والسياسات الخارجية، وليس على جوهر وطبيعة النظام. وتحصل بذلك داخل النظام، عملية جدلية من التعاون والتباين.
وهي تصبّ رغم حاجات التعبئة والتحشيد في خدمة هدف مختلف، لمصلحة قوى التبعية للغرب، وللوصاية الأميركية المتعاظمة حالياً.
ذلك أي التحاصص يولِّد الانقسام والصراع على الحصص، وهو في التجربة يستدرج الخارج للاستقواء به تثبيتاً للتوازنات أو لتعديلها. وهي دوامة لا مفر للخروج منها إذا ظلت صيغة الحكم الراهنة هي السائدة، رغم محاولات الإصلاح المتعدّدة وأبرزها في «الطائف» الذي أجهضت إصلاحاته منذ أكثر من ثلاثة عقود، ولا تزال.
النزاع الأهلي والفئوية والتبعية، عوامل قائمة في صلب الصيغة التحاصصية الطائفية التي هي في الوقت نفسه، أداة تفتيت وتشتيت وإضعاف في يد الأعداء. لبنان الآن أمام تحدّي الإصلاح ورفض إملاءات الوصاية ووحشية العدوان. قدّم وطنيوه نماذج باهرة في التضحية والمقاومة والتحرير: المعركة مستمرة!!