لبنان بين رسائل الحرب ومخارج التسوية

كتب د. جيرار ديب في صحيفة العرب.
إذا كانت بليدا قد فتحت الباب أمام احتمالات الحرب، فإنها في الوقت ذاته قد تكون فرصة لفتح مسار تفاوضي يرسم حدود الردع والتسوية معًا.
أرجأ المبعوث الأميركي توماس باراك زيارته إلى بيروت، مفضلاً إبقاء الملف اللبناني في دائرة الانتظار، بعد أن توصّل إلى قناعة مفادها أن لا جديد يستحق النقاش في العاصمة اللبنانية.
عبارة “ليس هناك جديد” التي نقلها مقرّبون منه تختصر، في عمقها، حجم الإحباط الأميركي من الأداء السياسي اللبناني، وتكشف عن تصاعد لهجة الامتعاض في واشنطن تجاه طبقة سياسية تبدو عاجزة عن التقاط الفرص أو احتواء الانهيار.
هذا التململ الأميركي لم يكن مفصولا عن الزيارة الخاطفة لنائبة المبعوث الخاص للرئيس الأميركي، مورغان أورتاغوس، إلى بيروت قبل أيام من موعد زيارة باراك، والتي عبّرت بدورها، بعيداً عن الأضواء، عن نفاد صبر الإدارة الأميركية من المراوحة القاتلة في لبنان. فالمناخ الأميركي بات أقرب إلى إعلان اليأس من إمكانية الإصلاح، والرهان على شراكة لبنانية قادرة على ضبط التوازنات الداخلية ومنع الانفجار الإقليمي من التمدد إلى الداخل.
لكن المفارقة جاءت من الجنوب. ففي اليوم ذاته الذي اعتذر فيه باراك عن المجيء، اهتزّت بلدة بليدا على وقع عملية إسرائيلية استهدفت موظفًا رسميًا داخل مبنى البلدية، في رسالة واضحة تفيد بأنّ إسرائيل تغيّر قواعد اللعبة، وتوجّه إنذارًا مباشرًا إلى الدولة اللبنانية لا إلى حزب الله فقط. الرسالة هذه المرة مزدوجة: اغتيال موظف رسمي في مؤسسة حكومية، واستهداف مبنى بلدي، وكأنها تقول إن الحرب المقبلة لن تفرّق بين حزب الله ومؤسسات الدولة.
الرئاسة اللبنانية تلقفت الرسالة بجدية، فاستدعى الرئيس جوزيف عون قائد الجيش، وأمر بتعزيز القوات في الجنوب، متوعدًا أي محاولة إسرائيلية جديدة بالتصدّي الحاسم. كما طالب لجنة “الميكانيزم” المعنية بمتابعة تنفيذ القرار 1701 بتفعيل دورها والضغط على إسرائيل لوقف خروقاتها.
نشر الجيش وتعزيز وجوده في الجنوب لا يعنيان انخراط الدولة في محور المقاومة، بل هما تأكيد على أنّ لبنان الرسمي يريد استعادة زمام المبادرة في الجنوب عبر الأطر الشرعية
هذه النبرة الصارمة من بعبدا، وإن جاءت في إطار الدفاع عن السيادة، إلا أنها حملت أصداءً سياسية واسعة، خصوصًا بعد تأييد كتلة “الوفاء للمقاومة” موقفَ الرئيس ودعمها الجيشَ في مواجهة العدو.
التحام الموقف بين الجيش وحزب الله، ولو مؤقتًا، لم يمرّ مرور الكرام في واشنطن. فقد عبّر السيناتور ليندسي غراهام عن خشية بلاده من أن يؤدي هذا التقارب إلى تعطيل أي جهد لدعم الجيش اللبناني، معتبرًا أن “انضمام الجيش إلى حزب الله في قتال إسرائيل” ينسف الثقة بالمؤسسة العسكرية.
كل المعطيات اليوم تشير إلى أن لبنان يقف على حافة مواجهة مفتوحة. مصادر دبلوماسية أميركية لم تخفِ اعتقادها بأن “الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان قد ضاعت،” وأن مسار الأحداث يتجه نحو المزيد من التصعيد، في ظل انسداد أفق التسويات الداخلية والإقليمية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل تكون بليدا شرارة الحرب الرابعة، أم نافذة لتسوية جديدة تُعيد خلط الأوراق؟
لا أحد يشك في وطنية رئيس البلاد ولا في حرصه على سيادة لبنان، لكنّ موقفه الأخير تُمكن قراءته من زاويتين: الأولى ترى فيه استعدادًا لمواجهة ميدانية محتملة، والثانية تعتبره رسالة إلى المجتمع الدولي والعربي تفيد بأنّ الجيش اللبناني قادر على فرض السيادة إذا توفّر له الدعم اللازم. فالرئيس لا يلوّح بالحرب بقدر ما يطالب بدعم مؤسّساته الشرعية لتجنّبها.
من جهة أخرى، يبقى سلاح حزب الله عقدة التوازن الداخلي والخارجي على حدّ سواء. فالجيش الذي يجهّز نقاطه الأمامية على الحدود، لا يفعل ذلك في إطار التنسيق الميداني مع الحزب، بل التزامًا بقرارات الحكومة والقرار الدولي 1701. أمّا الحزب فموقعه الإقليمي يجعله جزءًا من لعبة أكبر، تتجاوز الحدود اللبنانية إلى طاولة التفاوض الإيراني – الأميركي حول الملف النووي والعقوبات.
لذلك، فإنّ نشر الجيش وتعزيز وجوده في الجنوب لا يعنيان انخراط الدولة في محور المقاومة، بل هما تأكيد على أنّ لبنان الرسمي يريد استعادة زمام المبادرة في الجنوب عبر الأطر الشرعية. حادثة بليدا يجب أن تكون جرس إنذار للمجتمع الدولي، لا ذريعة لتصعيد جديد، لأنّ استمرار الخروقات الإسرائيلية سيقود حتمًا إلى انفجار يصعب احتواؤه.
ربما أراد الرئيس عون أن يقول للعالم إن لبنان لا يطلب سوى أن يُترك ليحمي نفسه ضمن الشرعية الدولية، وإنّ السلاح الشرعي وحده هو الضمانة لسيادة الدولة لا لتقويضها. وإذا كانت بليدا قد فتحت الباب أمام احتمالات الحرب، فإنها في الوقت ذاته قد تكون فرصة لفتح مسار تفاوضي يرسم حدود الردع والتسوية معًا.
فهل يقرأ المعنيون هذه الرسائل قبل فوات الأوان؟




