هل يمكن تحجيم شوفينية مودي؟
كتب خالد اليماني في صحيفة إندبندنت عربية.
جاءت نتائج الانتخابات الهندية لتشكل صفعة لمحاولات رئيس الوزراء ناريندرا مودي لتطويع النظام الدستوري والانتخابي لمصلحة أجندته الهندوسية الإقصائية فقد حاول خلال الأعوام الماضية عبر مناورات دقيقة استهدفت تركيع القضاء وترهيب المعارضة السياسية وتخويفها من خلال سجن قياداتها وتجميد أرصدتها، أو إخضاعها لتحقيقات الشرطة استناداً إلى ذرائع واهية بهدف كسر المنافسين أو شرائهم.
كل هذه التكتيكات لم تفلح في تحقيق أحلامه بالسلطة المطلقة في انتخابات 2024، مما حال دون منحه فرصة لمواصلة جهوده لتغيير صورة الهند العلمانية التي بناها الآباء المؤسسون وعلى رأسهم الماهاتما غاندي.
فشل مودي هذه المرة في تحقيق الغالبية المطلقة التي تمنحه تفرداً بالقيادة فقد أظهرت النتائج تراجعاً للسياسي الحصيف الذي لم يفشل من قبل طوال مسيرته السياسية الممتدة لـ23 عاماً في ضمان الغالبية على مستوى الولايات أو الوطن، فعلى رغم أن بهاراتيا جاناتا خرج منتصراً في هذه الانتخابات لكنه نصر بطعم الهزيمة لأن الحزب سيكون في حاجة لبناء تحالف لتحقيق الغالبية المطلقة لإدارة البلاد، في وقت حقق تحالف المعارضة نتائج طيبة في ولايات مثل أوتار برادش أحد حصون التطرف الهندوسي منتزعة نصف المقاعد الانتخابية، على رغم الضجيج الدعائي الذي أحدثه افتتاح مودي لمعبد راما الكبير على أنقاض جامع بابري في أبريل (نيسان) الماضي.
على عكس انتخابات 2014 التي حقق فيها نتائج كبيرة راكباً موجة الغضب التي اجتاحت الهند ضد تفشي الفساد أو في 2019 ممتطياً المشاعر القومية في شأن الاشتباكات الحدودية مع باكستان، فشل خطاب تسفيه المعارضة هذه المرة.
وتوقع معظم المحللين لانتخابات 2024 أن يتمكن مودي بسهولة من إقصاء أحزاب المعارضة الهندية الضعيفة وسيئة التمويل، التي تم بإيعاز منه تجميد الحسابات المصرفية لبعضها فيما تعرض بعض قادتها للسجن خلال الفترة التي سبقت الانتخابات، وفي نظر عديدين يمكن تلخيص قرار الناخبين الهنود في الانتخابات الأخيرة بنعم لبرنامج مودي الاقتصادي ولا واضحة لرؤيته الشوفينية العرقية التي تشعل نيران الكراهية وتنشر الخوف والرعب بين سكان الهند المسلمين البالغ عددهم 200 مليون نسمة.
عمل الآباء المؤسسون للهند من أجل الحفاظ على تماسك أمة شديدة التدين والتنوع وتوافقوا على أن يتعامل ممثلو الحكومة مع جميع الأديان على قدم المساواة، لكن مجيء مودي أجهض معادلة التعايش العلمانية بترويجه لدولة الهند الهندوسية وأن المسلمين كما قال مراراً ليسوا سوى “متسللين”، من حيث إن اتفاق التقسيم إنشاء دولة باكستان للمسلمين، ودولة الهند للهندوس.
مودي الطفل الذي ترعرع في صفوف منظمة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” اليمينية شبه العسكرية وهي نفس المنظمة التي أنجبت معظم قيادات الحزب الحاكم “بهاراتيا جاناتا” والمسؤولة عن مقتل الماهاتما غاندي في الـ30 من يناير (كانون الثاني) 1948، حينما قام أحد منتسبيها بجريمته الشنعاء ضد رمز كفاح واستقلال الهند بتهمة أنه خان رؤيتهم العنصرية لاستعادة العصر الذهبي للحضارة الهندوسية.
أهي نهاية عقدي الصعود؟
ناريندرا مودي بائع الشاي المنتمي لطبقة الغجات للهندوس الغانشي من ولاية غوجارات وهي من الطبقات الدنيا الوضيعة والقريبة من طبقة “الداليت” للمنبوذين، من الفئات التي تعاني التهميش والاضطهاد في النظام الطبقي الهندوسي التقليدي، حاول طوال حياته السياسية حمل راية “هندوتفا” العنصرية ضد أبناء الأعراق الهندية الأخرى بوصفها وسيلة للوصول السياسي، وحتى في حملته الانتخابية الأخيرة ظل يكرر على مسامع الهندوس المهمشين والمنبوذين فكرة أنه الوحيد القادر على منع “حزب المؤتمر” المنافس من إلغاء برنامج العمل الإيجابي الذي صنعه لمصلحتهم، أو انتزاع مواشيهم ومجوهرات الزفاف خاصتهم وتوزيعها على المسلمين.
ومنذ طفولته انضم ناريندرا مودي إلى منظمة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” شبه العسكرية التي استهدفت المسلمين بحجة أنهم خطر وجودي على الهند وسخر كل حياته للعمل الحزبي ولم يعمل في أية مهنة، وترقى في صفوف الجماعة وصولاً إلى رئاسة وزراء مسقط رأسه ولاية غوجارات عام 2001، وكانت بدايته بالإشراف المباشر على مذبحة المسلمين التي خلفت نحو 2000 قتيل وهي المجزرة التي أكسبته مكانة كبيرة بين الهندوس المتطرفين للفوز في الانتخابات الإقليمية في ديسمبر (كانون الأول) 2002، ونجاحات تصاعدية تلتها في 2007 و2012 وصولاً إلى رئاسة حزب “بهاراتيا جاناتا” ورئاسة وزراء الهند عام 2014.
بعض خبراء الشأن الهندي يسلطون الضوء على مركب النقص في شخصية مودي الذي دفعه إلى اعتماد سياسة عبادة الفرد التي تحاول حملته الانتخابية التركيز عليها باعتباره المنقذ للهندوسية من أعدائها الذين يتربصون بها، ووصلت به الحال إلى تكرار القول في مقابلاته الصحافية عبارات مثل “اختارني الرب”، و”الرب جعلني أداة لتمثيل كل الشعب الهندي” رافعاً شعار “حكم رام راجيا يبدأ” في إشارة للهيمنة الهندوسية بقيادته على الهند العلمانية رسمياً.
وفي انتخابات 2019 قدمت الدعاية الانتخابية فوز مودي بعنوان “انتصر موديتفا” في تكريس لعبادة الفرد وتسخير لمصطلح “هندوتفا” الهندوسي، وربما هذا المسعى الفردي لمودي هو ما خلق له كثيراً من الخصوم بين السياسيين الهندوس ممن يتطلعون إلى السلطة، كما أن برامجه التي جاءت لمصلحة الأغنياء زادت من الهوة بينه ومن أوصله إلى السلطة من فقراء ومهمشي الهندوس.
دولة مودي العميقة!
مع مرور الوقت برزت الميول الاستبدادية لرئيس الوزراء مستغلاً التفويض الشعبي المطلق الذي منحه إياه الهنود في 2014 و2019 فكرس جهده لإضعاف المنظومة الديمقراطية المؤسسية التي منحته السلطة، وخصوصاً منظومة سيادة القانون واضعاً نفسه في مواجهة مع القضاء من زاوية أنه لا يجوز تحدي القائد الذي يجسد تطلعات الشعب، فصار هو الشرعية التي تقوض الشرعية لذا عمل مودي على استهداف المحكمة العليا مند أول يوم وصل فيه إلى السلطة في 2014 مطالباً بإصلاح يغير صورة تعيين القضاة مما مكنه الاختيار والمفاضلة بين المرشحين، كما عمل على التدخل في منظومة التعليم العالي عبر منح الأولوية لأعضاء ومؤيدي التيار القومي الهندوسي.
واستخدم عقود الدولة وتسهيلاتها في بناء شبكة من رجال الأعمال الموالين له وموارد القطاع العام لضمان تمويل قوي لحزبه، حتى أن الموازنة المعلنة لحزب “بهاراتيا جاناتا” في انتخابات 2019 بلغت ثلاثة مليارات دولار، ما فاق جميع موازنات الأحزاب الأخرى مجتمعة في المعارضة والموالاة كما عمل مودي لبناء ميليشيات حزبية طائفية تعمل في مختلف الولايات مثل الشرطة الثقافية لاستهداف المعارضين والمسلمين على وجه الخصوص، وتراقب هذه الشرطة الثقافية المسلمين وتعوق زواجهم من هندوسيات أو تضغط عليهم للتحول إلى الهندوسية أو تمنعهم من الإقامة في المناطق المختلطة. وبهذا تتغلغل حركة “هندوتفا” القومية الهندوسية عميقاً في المجتمعات المحلية وكلاء لأجهزة الأمن الرسمية.
وفي ولايته الثالثة تعهد مودي عرض قانون مدني مشترك للهند وهو مسعى تخشاه الأقليات، وبالتحديد المسلمون لأنه قد يتعدى على قوانينها الدينية التي ضمنتها دولة الاستقلال، بخاصة أن قوانين الأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق والميراث تختلف بناءً على التقاليد العرفية للمجتمع وأديانه المختلفة. وتتزايد مخاوف الهنود المسلمين من قيام الحزب الحاكم بتصنيفهم مواطنين من الدرجة الثانية في دولة هندوسية.
فهل سيكون مودي في ولايته الثالثة قادراً على مواصلة بناء دولة الهندوس العميقة وتغيير صورة الهند نهائياً، أم هل ستتمكن المعارضة بقيادة الائتلاف الذي يقوده “حزب المؤتمر” الهندي من إلغاء القوانين والتجاوزات التي اقترفها مودي وحزبه والتي تحد من قدرات النظام الديمقراطي العلماني، والحفاظ على الهند التي بناها الآباء المؤسسون؟