صدى المجتمع

يورغن تيلير يغزو العالم بتصويره الحياة بين جدّ وهزل

لم يحتَج المصوّر الألماني يورغن تيلير إلى أكثر من سنوات معدودة لتحويل نفسه إلى ظاهرة فنية دولية نادرة. كيف؟ بابتكاره منهج عمل لا يمتثل لأي عُرف، ويقوم على فضول لا ينضب للعالم المحيط به، وعلى مزج الجدّ والهزل في سرديات صورية آسِرة باتت اليوم أيقونات في ميدان التصوير الفوتوغرافي المعاصر. منهج فتح له أبواب أكبر المتاحف والمؤسسات الفنية الغربية، منذ صعود نجمه في لندن، مطلع التسعينيات، بفضل سلسلة من الأعمال الشخصية، انكب فيها على مساءلة نفسه، روابطه العائلية وهويته.

جديد تيلير اليوم معرض ضخم تنظمه له “جمعية المتاحف الوطنية” في “القصر الكبير الزائل”، في باريس، بعنوان “أريد أن أعيش”، ويطمح إلى كشف العمق النادر والمدهش لعمله الفوتوغرافي، من خلال أكثر من 800 عمل فني له تتوزع على مساحة تتجاوز 2000 متر مربّع، وتغطي العقود الثلاثة من مسيرته الفنية الباهرة. أعمال تتراوح بين صور فنية وأخرى تجارية، وفيديوهات وتجهيزات، وتحضر داخل المعرض على شكل سردية شخصية غير زمنية تمنح المتأمل في عناصرها فرصة عيش تجربة بصرية متعددة وفريدة.

وفعلاً، لأن سرد القصص يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من عمل تيلير، أراد منظمو المعرض تسليط الضوء عليه عبر دمجهم بطريقة غير تقليدية ثمار من تجربته الفنية الشخصية وأخرى من عمله التجاري، وفقاً للأنواع والموضوعات الفنية التي مارسها: البورتريه، البورتريه الذاتي، المشهد الطبيعي، العري، الطبيعة الصامتة… سعى منظمو المعرض أيضاً إلى تجسيد افتتان الفنان بدورة الحياة التي يتعذّر التنبؤ بها، وكشف جُهد الاستبطان الذي رصده لاستكشاف الروابط العائلية، ومشاعر فقدان الأصدقاء والمقربين منه، مع التركيز على العلاقة الإبداعية الخصبة التي تربطه منذ سنوات خمس برفيقة دربه وملهمته، الفنانة الليتوانية دوفيل دريزيت، وأثمرت مشاريعاً مشتركة تعكس جوانب مختلفة من علاقتهما الزوجية ودورهما كوالدين لثلاثة أطفال. مشاريع مشوبة بالفكاهة، تحضر شخصياتها بوضعيات حميمة يمتزج فيها الجدّ والسخرية من الذات بأسلوب مبتكَر.

“أريد أن أعيش”

أما عنوان المعرض، “أريد أن أعيش”، فيهدف إلى الدلالة على الدور المهم للأحداث التي عاشها تيلير في قولبة حياته وفنه، وبالتالي على تشكيلها موضوعاً ثابتاً داخل عمله، قاربه بأسلوب واقعي ومباشر، كي لا نقول فجّ، وسعى من خلاله إلى الاحتفاء بقيمة الحياة، من دون إهمال هشاشة الوجود البشري.

في بداية المعرض، تحضر مختارات من سلسلة “Go-Sees” التي التقط تيلير صورها عام 1998 عند مدخل الاستوديو الذي نشط فيه، في لندن، وعنوانها مصطلح تقني يشير إلى المقابلة الأولى بين مصوّر فوتوغرافي وعارضة أزياء. بورتريهات تمثل عارضات الأزياء فيها بوضعيات مختلفة، تارةً بخجلٍ، وطوراً بثقة، دائماً بملابس عادية، وتتميز بانتهاكها قواعد فن التصوير المعتمدة في عالم الأزياء، بعدم خضوعها لأي تعديل أو تنقيح لدى تظهيرها، وبالزوايا العفوية وغير العادية لالتقاطها، بخلاف صور الموضة التي تُلتقط وفقاً لبروتوكولات محددة، ولا تشوبها شائبة.

في جوار هذه السلسلة، نشاهد فيديو بعنوان “هل يمكنني امتلاك نفسي” (1998) لجأ تيلير لإنجازه إلى نص جامعي للباحثة شانون بيكام يسائل ملكية الصورة، وإلى عارضة الأزياء الشهيرة كايت موس التي تشكّل خير شخصية لفتح نقاش في هذا الموضوع. عمل تحضر فيه هذه العارضة أثناء استعدادها للقيام بعملها، على خلفية تسجيل صوتي نصغي فيه إليها وهي تقرأ نص بيكام بصوت عالٍ، الأمر الذي يلقي نظرة مختلفة عليها وعلى النص، على حد السواء.

في الصالة المجاورة، يُعرض فيديو أدائي بعنوان “فراشة” ينقلنا إلى داخل إحدى غرف فندق “كريون” الباريسي الفخم عام 2005، حيث نشاهد تيلير يتدحرج عارياً على سطح بيانو تعزف الممثلة شارلوت رامبلينغ عليه لحناً معتماً. تجاورٌ يخلق تضارباً صارخاً بين الطابع الهزلي لحركات الفنان المرتجلة وصرامة رامبلينغ، ويحوّل تدريجاً جسد تيلير العاري، الذي يلتوي على وقع الموسيقى، إلى شيء مجرّد لا يلبث أن يهمد كلياً مع النوتة الأخيرة من المعزوفة.

رسالة حب

في صالة أخرى، تحضر سلسلة صور “إيرين والدة فالد” (2012) التي تشكّل، بطريقة ما، “رسالة حب موجّهة إلى والدتي وإلى الغابة التي نشأتُ بالقرب منها”. أعمال نشاهد فيها هذه الغابة، أم الفنان في الغابة، ونقرأ في جوارها نصاً صريحاً وعميقاً لتيلير يفسّرها. تحضر أيضاً في هذه الصالة سلسلة “صور ونصوص” (2012) التي نطّلع فيها إلى بعض ثمار العمود الذي وقّعه الفنان على مدى أكثر من عام في صحيفة “دي تسايت” الألمانية، وقدّم فيه كل أسبوع صورة جديدة له برفقة نص منه. سلسلة لم تدشّن فقط مثابرته لاحقاً على جمع الصورة والكلمة في عمله، بل أيضاً الجانب السيرذاتي فيه. ومثل صوره، تتميز نصوص هذا العمود بلغة استفزازية أثارت حماسة بعض قراء الصحيفة، واستنكار بعضٍ آخر.

في منتصف المعرض، تتوزع مختارات من سلسلة “بندق” (2020) التي تتألف من صور استبطانية حول موضوع الطبيعة الصامتة، التقطها تيلير أثناء فترة الاحتباس الأولى التي فرضها وباء “كوفيد”، وترمز إلى العزلة الاجتماعية التي اختبرها البشر في مختلف أنحاء العالم. وإلى جانب أشياء شخصية، كألعاب وتُحف وأقواس كمان، نرى في هذه الصور قفازات جراحية وخضراوات تمثّل عبثية الوضع القائم والإحباط الناتج منه. وبوضعه هذه الأشياء على صفحات ألبوم العائلة أو أرشيفه الفوتوغرافي، قبل تصويرها، يخلق الفنان حواراً بين الماضي والحاضر، يعززه التضارب بين سطوح هذه الصفحات المسطّحة والمظهر ثلاثي الأبعاد للأشياء التي تعلوها.

وفي صالة خاصة، نشاهد عشرات الكتب التي وضعها تيلير في السنوات العشرين الأخيرة، لعل أبرزها هو “ملاحظات حول عملي” (2021) الذي يتضمّن ردّه الساخر على التعليقات السلبية التي حصدتها بورتريهاته للمرشحين لجائزة الـ “أوسكار” في عام 2021. صور التقطها في شوارع لوس أنجلوس لـ 28 ممثلاً وممثّلة، بطلب من مجلة “W” الأميركية، وفتنت هيئة تحريرها بابتعادها عن “البريق الفائض” (glamour) الذي يميّز عادةً هذا النوع من البورتريهات، لكنها تعرّضت على وسائل التواصل الاجتماعي لانتقادات عديدة أساء أصحابها فيها فهم منهج عمل تيلير. ولذلك، يشكّل هذا الكتاب، في مضمونه وطريقة تصميمه، مرآة تعرّي طبيعة وسائل التواصل المذكورة، وتذكيراً بأن الفنان هو الذي يحدّد معايير الجمال، وليس العكس.

“تلّ الصلبان” هو مكان للحج وموقع سياحي في ليتوانيا، يعود تاريخه إلى انتفاضة نوفمبر(تشرين الثاني) 1831 التي حاول فيها الليتوانيون التخلص من الهيمنة الروسية على وطنهم، وفشلوا في ذلك. إنه أيضاً عنوان سلسلة صور التقطها تيلير في هذا المكان، لدى زيارته له عام 2022 مع زوجته الليتوانية. أعمال تستوقفنا داخل المعرض طويلاً نظراُ إلى مهارة الفنان في استثمار تقنية المونتاج فيها لقول عنف قمع الروس الانتفاضة المذكورة، وشحنِ هذا الموقع بمعنى شخصي عميق.

وإذ لا مجال هنا لتناول كل سلاسل الصور المعروضة حالياً لتيلير في “القصر الكبير الزائل”، نتوقف عند سلسلة أخيرة ومثيرة بعنوان “الأسطورة” (2022)، تشكّل خير تأويل طريف للأسطورة التي تقول بأنه يجب على المرأة أن تتمدد وترفع ساقيها كي تعزز احتمالات حملها. ولإنجازها، لجأ الفنان وزوجته دريزيت إلى عدة سيناريوهات وضعاها موضوع التنفيذ في غرف فندق “فيلا سيربيلوني”، على ضفة بحيرة كومو في إيطاليا، وأفضت إلى أعمال حميمة ورقيقة، نرى في بعضها جسد دريزيت العاري كلياً، بينما لايظهر في بعضٍ آخر سوى ساقيها أو قدميها، تارةً من تحت لحاف، وطوراً من خلف ستارة أو قطعة أثاث، لكن دائماً على خلفية أعمال فنية شهيرة لنساء حاملات، لأطفال في حضن أمهاتهم، أو لطيور اللقلق.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى