“يبدو أنّ إيران ثورةٌ خرجت عن السكّة”

كتب سركيس نعوم في “النهار”: “ماكينة” الدعاية في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة لا تزال تؤكِّد لشعبها، كما لشعوب دول عدّة في الشرق الأوسط، أنّ الانتصارات التي تحقَّقت في المنطقة بواسطة الشعوب التي تشترك معها في الانتماء المذهبي وفي الاستراتيجيا السياسيّة وفي الأهداف القوميّة والإسلاميّة في آن واحد، لا تزال ثابتة ولا سيّما في العراق وسوريا و#لبنان وقطاع غزّة وفي اليمن. كما لا تزال تؤكِّد أنّها حقّقت، بواسطة “#حزب الله”، انتصارات عدّة على إسرائيل كان أوَّلها إخراجها في 24 أيّار 2000 من معظم الأراضي اللبنانيّة التي احتلّتها منذ عام 1978. وكان ثانيها نجاحها، بواسطة “الحزب” نفسه، في مواجهة حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 وفي منعها من تحقيق أهدافها. وكان أبرزها القضاء على “حزب الله” أو على الأقلّ إصابته بعُطل دائم. وكان ثالثها النجاح في جعل لبنان مستودعاً لنحو مئة ألف أو مئة وخمسين ألف صاروخ بعضها تقليديّ وبعضها دقيق، وفي جعل الإسرائيليّين وحكوماتهم وعسكرهم يعيشون هاجس الخسارة الفادحة التي قد يتعرَّضون لها إذا ما نشبت حربٌ حقيقيّة بينهم وبين لبنان “حزب الله”، إذ إنّ حجم الضرر والخراب الذي سيُصيب إسرائيل من جرّاء إطلاق الآلاف منها عليها في حربٍ واسعة، والذي سيُهدِّد سمعتها قوّة إقليميّة لا تُقهر ولا تفشل، علماً بأنّ ذلك لا يعني قُدرة إيران و”حزب الله” على إلحاق هزيمة كاملة بإسرائيل.
لكنّ عدداً من الباحثين الآسيويّين والأميركيّين بدأوا يتساءلون عمّا إن كانت الميليشيات العربيّة المُوالية لإيران أو التي أنشأتها إيران ودرّبتها وسلّحتها وموّلتها و… لا تزال مُفيدة لها؟ الجواب الذي يميلون إليه عن هذا السؤال هو أنّ الفائدة المذكورة تراجعت أو أصابها وسيستمرّ في إصابتها نوع من التقلّص، ذلك أنّ إيران بميليشياتها العربيّة التي أحبط مرّات عدّة أعداءها العاملين على الحطّ من قدرها وعلى مواجهتها بكلّ الطرق الممكنة لم يعُد قادراً على وضع استراتيجيا مضادّة فاعلة. فالمدّ الذي كان لإيران بدأ يُصبح جَزْراً أي إنه يتراجع. ذلك أنّ سلسلة من الأحداث التي حصلت توحي أنّ فائدة بعض ميليشيات إيران في لبنان واليمن والعراق وفلسطين (غزّة) بدأت تضعف. كما أنّ شعبيّتها تتضاءل وعلاقاتها مع طهران تواجه رياحاً مقابلة مُعاكسة. فحظوظها المُتغيّرة والتقلُّص الظاهر لنفوذ إيران داخلها يُشكِّلان تحدّياً جوهريّاً لمفهومَي الاستراتيجيا والدفاع اللذين تبنّتهما الجمهوريّة الإسلاميّة منذ بداية الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة ونجاحها لاحقاً في إسقاط حاكمها الشاه محمد رضا بهلوي ونظامه المدعومَيْن من الولايات المتحدة عام 1979. في هذا المجال تُفيد الصورة العامّة أنّ التوسُّع الإيراني بلغ ذروته عام 2018. لكنّه دخل منذ هذا التاريخ مرحلة جديدة لم تُعانِ إيران فيها أيّ تراجع عسكري استراتيجي، بل بدا أنّها تصطدم بجدار سميك وقويّ.
مشكلة إيران الجوهريّة هي أنّ غالبيّة حلفائها تنجح دائماً تقريباً في المواجهات المُسلَّحة. لكنّها رغم ذلك تبدو عاجزة عن تأمين استقرار سياسيّ واقتصادي. إلى ذلك، يبدو أنّ إيران هي ثورة خرجت عن السكّة بعد 43 عاماً، إذ رغم الفساد الواسع الانتشار وسوء الإدارة الاقتصاديّة، فقدت إيران الطابع الثوريّ الإسلامي العالمي الشامل الجاذب للشيعة والسُنّة في وقت واحد. فالمسلمون السُنّة يرَون فيها اليوم قوّة وطنيّة إيرانيّة وشيعيّة.
طبعاً لا يعني ذلك أنّ إيران قريبة من التخلّي عن حلفائها العرب في الدولتين. فهم لا يزالون قوّة عسكريّة قويّة وعصيّة على الهزيمة أو الانهزام. ولا يزالون أصحاب نفوذٍ إيرانيّ إقليميّ في لبنان والعراق وإن واجهتهم مشكلات عدّة.
أكثر من ذلك يرى الباحثون الأميركيّون والآسيويّون أنفسهم أنّ مجموعات مثل “حزب الله” اللبناني و”حماس” قطاع غزّة يُمكن أن تُجبر إسرائيل على خوض حرب على جبهتين إن لم يكُن على ثلاث جبهات، إذا ضربت المنشآت النوويّة الإيرانيّة. علماً بأنّ استراتيجيا بناء خطّ دفاعي خارجي في دول عربيّة ومن أبنائها كانت مجزية جدّاً. فـ”حزب الله” صار القوّة السياسيّة والعسكريّة الأقوى في لبنان ولاعباً مُهمّاً في الحرب الأهليّة السوريّة وأنموذجاً للميليشيات في كلّ مكان. و”حماس” حكمت قطاع غزة الفقير منذ 2007، والحوثيّون أحرجوا الآلة الحربيّة السعوديّة وهزموا المملكة غالباً في الحرب التي بدأت قبل نحو سبع سنوات. كما أنّ الميليشيات العراقيّة صارت قوّة مهمّة. لكنّ المزعج هو أنّ “حزب الله” والمجموعات المدعومة إيرانيّاً صاروا متماهين في نظر العالم مع أنظمة فاسدة مارست العنف، ومتناقضين مع تظاهرات شعبيّة حاشدة كانت تُطالب بالتغيير. وقد ظهر ذلك في الانتخابات النيابيّة العراقيّة الأخيرة التي انخفض تمثيل حلفاء إيران فيها من 48 نائباً إلى 17. فضلاً عن أنّ ادّعاء “حماس” و”الحوثيّين” أنّ الحروب والتدخُّلات الخارجيّة والحصارات منعتهم من تأمين الموارد والخدمات للناس لم يعُد مقبوضاً كثيراً. ثم إنّ سفير إيران لدى الحوثيّين في اليمن حسن إيرلو الذي قضى أخيراً بـ”كوفيد – 19″ حُمِّلت مسؤوليّة وفاته للسعوديّة إذ عرقلت في رأيهم تسهيل انتقاله إلى بلاده للمعالجة.
في هذا المجال تفيد معلومات عراقيّة أنّ إسماعيل قاآني خلف الحاج قاسم سليماني في قيادة “الحرس الثوري الإيراني” سعى إلى إقناع حلفائه في بغداد بالامتناع عن إطلاق قذائف على أهداف أميركيّة في بغداد والعراق عموماً في أثناء بدء التفاوض بين إيران والمجتمع الدولي في فيينا حول الاتفاق النووي. لكنّه أخفق. وقد عبَّر الشيخ قيس الخزعلي عن رفض هذا الموقف بقوله على شاشة التلفزيون “إنّ هذا قرار عراقي”. كما قال زعيم شيعي سياسي: “لم تعُد إيران كما كانت ولا سيّما سيطرتها المُطلقة على قادة الميليشيات التي ساعدت في تأسيسها”.
في النهاية لا بُدّ من أن تُجري إيران حسابات دقيقة لمضاعفات سياساتها في المنطقة. وإن كانت دقيقة فعلاً فإنّها ستكتشف أنّ مكاسبها من دعم الميليشيات العربيّة لا تزال تفوق الكلفة.