وهم الرهان الغربي على ما بعد بوتين.
كتب رفيق خوري في إندبندنت.
روسيا ليست في “عزلة” بعد حرب أوكرانيا، كما أظهرت القمة الروسية – الأفريقية في سانت بطرسبورغ التي حضرها رؤساء ومسؤولون من 49 دولة أفريقية. والرئيس فلاديمير بوتين ليس في موقع داخلي ضعيف، كما كشفت الوقائع بعد أيام من تمرد “طباخه” يفغيني بريغوجين صاحب ميليشيا “فاغنر” الذي أوحى أن قبضة الرئيس الروسي ضعفت. فالعالم تغير، كما تغيرت أميركا والصين وروسيا.
العالم لم يعد كما كان خلال الحرب الباردة والصراع بين الجبارين الأميركي والسوفياتي، أميركا في موقف دفاعي عن نفوذها في العالم، والصين في موقع هجومي بـ”القوة الناعمة” لمد نفوذها إلى بلدان عدة في كل القارات، وروسيا تستخدم “القوة الصلبة” في أوكرانيا بعد جورجيا وسوريا في رهان على استعادة شيء مما كان للاتحاد السوفياتي من نفوذ.
في الماضي كان “جنوب العالم” تعبيراً عن حال بلدان فقيرة تعاني تمركز القوة والثروة في “شمال العالم”، اليوم صار “الجنوب العالمي” تعبيراً عن أحوال بلدان بعضها قوي وغني وله نفوذ إقليمي، وبعضها الآخر فوق خط الفقر أو عليه أو تحته، وكلها تمارس حرية الخيار في العلاقات مع الكبار.
أفريقيا القارة المنهوبة ليست الوحيدة التي تستفيد حالياً من التنافس على النفوذ فيها بين أميركا والصين وروسيا وأوروبا، وآسيا منفتحة على أميركا والصين وروسيا وأوروبا خلافاً لما كانت عليه في الماضي، حتى أوروبا المصطفة حالياً وراء أميركا في مواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا فإنها تتميز عن واشنطن في العلاقات مع بكين. وليس على القمة عملياً سوى أميركا والصين، أما بقية الكبار فهم حول القمة، والآخرون على السفح.
وما يراهن عليه الغرب الأميركي والأوروبي ليس فقط إلحاق “هزيمة استراتيجية” بروسيا، بل أيضاً مرحلة ما بعد بوتين لاستعادة العلاقات بين روسيا والغرب، لكن الجزء الأول من الرهان صعب، مثل الرهان الروسي على “انتصار استراتيجي” في الحرب. والجزء الآخر حلم يقترب من الوهم، فلا ما بعد بوتين تغيير جوهري “إلا إذا جاء بعد هزيمة عسكرية مدوية” كما تقول أندريا كيندال – تايلور وأريكا فراتنز في مقالة نشرتها “فورين أفيرز”، ولا النخبة السلطوية الدائرة من حول بوتين سوى نوعين: “تكنوقراط” من البيروقراطيين وحكام المناطق، و”وطنيين” من رؤساء الأجهزة الأمنية والمسؤولين في حزب بوتين “روسيا الموحدة” بحسب تاتيانا ستانوفايا. وليس في النوعين شخصيات لامعة ولها حيثية، لأن “القيصر” يريد أتباعاً فقط.
يقال إنه ليس لدى بوتين، على كثرة المعاونين من حوله، سوى ثلاثة مستشارين، إيفان الرهيب وبطرس الأكبر وكاترين الكبرى. وهم جميعاً عملوا ضمن استراتيجية قوامها “لا اطمئنان إلى أمن روسيا إلا إذا كان الجيش الروسي على طرفي الحدود، ولا طريقة للدفاع عن الحدود سوى توسيعها”. وبوتين ممثل لما في روسيا أيام القياصرة وأيام السوفيات من “ثوابت”، فهو رجل بلا تاريخ سياسي، ولم يكن حتى مسؤولاً في الحزب الشيوعي. مجرد ضابط في جهاز الاستخبارات “كا. جي. بي” عمل في درسدن بألمانيا حتى انهار جدار برلين، فعاد لروسيا ليرى انهيار الاتحاد السوفياتي الذي وصفه بأنه “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الـ20”. ولم يكن أمامه في بطرسبورغ سوى العمل كسائق تاكسي، إلى أن ابتسم له الحظ وصار ما صار على يد يلتسين.
ذلك أن روسيا ترى نفسها في البداية “قطباً” في مقابل الغرب لا مجرد شريك، حتى عقيدة السياسة الخارجية الروسية الجديدة التي أصدرها بوتين فإنها تنص على أمرين أساسيين، أولهما أن الغرب “تهديد وجودي لروسيا”، وثانيهما أن المهمة هي “إنهاء نفوذ الغرب في العالم” وترتيب “عالم ما بعد الغرب”. وهذا ما يفرض نفسه على أي خليفة لبوتين، الذي عرف كيف يلعب دور “القيصر” من خلال قول ستالين “الروس شعب قيصري يبحث دائماً عن قيصر ليعبده ويعمل لأجله”.
وكل ما حدث بعد تمرد بريغوجين الذي ظهر على مقربة من قمة سانت بطرسبورغ هو أن القيصر نزل من فوق ومشى على الأرض، وبدأ يقابل المسؤولين وحتى الناس مباشرة لا عبر التلفزيون، لكن الطبع يغلب التطبع.