رأي

وقف إطلاق النار.. مصر البوصلة

كتب د. خالد قنديل في صحيفة الأهرام.

جاحدٌ هو من يغضُّ الطرف عن الدور المحوري الذي اضطلعت به الدولة المصرية في إرساء اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ذاك الاتفاق الذي لم يكن سوى شعاع أمل في ليلٍ طويل من الألم الفلسطيني، وكان هذا الاتفاق خطوةً بالغة الأهمية نحو تخفيف وطأة معاناة شعبٍ أُثقلت كاهله بحرب شرسة، كانت فيها العدالة غائبة، والضمير الإنساني مخرسًا أمام نزيف غزة الذي لم يتوقف.

تلك الحرب التي ستظل وصمةً سوداء على جبين الإنسانية الصامتة، وصمتها أشبه بخيانة علنية أمام إبادة مكشوفة استمرت لما يقرب من أربعِمائةٍ وسبعين يومًا، صارت خلالها شوارع القطاع مسرحًا للدم، وسماءه ممطرًا بنيران الطائرات.

لقد ارتفع عدد الشهداء في ذلك الجرح المفتوح إلى ما يقارب الخمسين ألفًا، جلُّهم من النساء، والأطفال، والمدنيين العُزّل، منذ أن بدأ الكيان المحتل عدوانه الغاشم في السابع من أكتوبر قبل عامين.

أما الجرحى، فقد تجاوزت أعدادهم مائة وعشرة آلاف، كثيرون منهم لا يزالون يصارعون الموت في زوايا الأنقاض، التي لم تفلح حتى صرخات من بقي تحتها في زلزلة ضمير العالم.
 
وحتى لحظة دخول الاتفاقية حيّز التنفيذ، استمرت طائرات الاحتلال في بث الموت، من النصيرات إلى جباليا، ومن حي الشيخ رضوان إلى خان يونس ورفح، وكأن الأرض في غزة قد تحولت إلى خريطة من الخراب والحزن.

وفي الجانب الآخر من هذا المشهد، تُدوَّن أحاديث التواطؤ السياسي في تل أبيب، حيث يتصاعد الجدل بين أركان الاحتلال، فقد أشار حزب الليكود إلى أن الاتفاق ما هو إلا ذريعة تتيح لإسرائيل استئناف القتال متى شاءت، بينما خرج وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، معلنًا أن الاتفاق يمحو ما يسميه “إنجازات” الاحتلال، ومهددًا باستقالته في وجه نتنياهو.
 
غزة، تلك البقعة الصغيرة التي لا تزال تحترق في صمت، هي شاهدة على خيانة العالم، ولكنها أيضًا صوت مقاومةٍ لن يخفت، في حناياها، ينهض الشعب كل يوم كالعنقاء، متحديًا الموت، متمسكًا بحق الحياة.

لم تكن الكلمات التي تفوّه بها “بن غفير” سوى مرآةٍ لتلك النفس المأزومة، التي تمزّقها الهزيمة في حربٍ ظنّ الكيان المحتل أنه سيديرها وفق هواه؛ حين قال: “الفرحة التي تابعناها في غزة والضفة الغربية تُظهر من الذي خضع في هذه الحرب”، كان في الواقع يكشف عمق إحساس قادة الاحتلال بالفشل، بدءًا من مجرم الحرب نتنياهو، الذي قاد هذا العدوان بكل ما فيه من دمار وقتل وتشريد وتجويع، دون أن يظفر بشيء سوى حقيقة واحدة لا تقبل التأويل: أن القضية الفلسطينية قد خرجت من بين الركام أكثر صلابة وألقًا.

على الرغم من الطائرات التي أمطرت غزة بالقنابل، والبيوت التي سويت بالأرض، والأنفاق التي توهّم الاحتلال أنه فكّكها، فإن المشهد على الأرض كان مختلفًا؛ فالشوارع في غزة والضفة الغربية اهتزّت بالهتافات، وامتلأت بالوجوه المتهللة فرحًا، معلنةً انتصارًا يتجاوز حدود الاتفاق نفسه، ويؤسس لحقبة جديدة في تاريخ القضية الفلسطينية، لقد كان هذا النصر هو حصاد الصمود، ذاك الصمود الذي أعاد رسم ملامح السردية الإسرائيلية التي طالما لعبت على وتر المظلومية. 

اليوم، تقف تلك السردية مهزومة أمام ضمير الشعوب التي خرجت في مختلف العواصم، مندّدة بممارسات الاحتلال، مطالِبة بمحاكمة نتنياهو وأركان حكومته. المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت أوامر اعتقال بحق هؤلاء القتلة، لم تعد مجرد هيئة صامتة، بل أصبحت سيفًا يلوح فوق رؤوسهم، خصوصًا بعد أن أعلنت دول عدة استعدادها لتنفيذ هذه الأوامر. 

وفي خضم هذه التحولات، اعترفت بعض الدول الأوروبية، ومنها دول في الاتحاد الأوروبي، بدولة فلسطين، مؤكدين أن الحل الوحيد يكمن في إقامة دولتين وفق القانون الدولي والقرارات الأممية.

أما على الصعيد الميداني، فقد خرج الاحتلال من هذه الحرب بخُفَّي حنين.. لم تُحقّق إسرائيل أهدافها المعلنة؛ رهائنها الذين توعّدت بإعادتهم، قُتل عدد كبير منهم خلال غاراتها الوحشية، أنفاق غزة، التي زعمت أنها دمّرتها، بقيت شاهدًا على فشلها، وقد تحولت إلى أفخاخ ابتلعت جنودها، أما المقاومة، فقد ردّت على العدوان بعمليات نوعية أعادت تشكيل معادلة الردع، وأثبتت أنها ليست فقط عصيّة على الانكسار، بل طرفٌ رئيسي في أي تسوية.

ومع دخول اتفاقية وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، يوم الأحد الماضي، تواصل مصر دورها الريادي، إذ اصطف مئات السائقين المصريين في مدينة العريش، محمّلين بشاحناتٍ تعج بالمساعدات الإنسانية، من أغذية وملابس وتجهيزات طبية وخيام، متجهين إلى معبر رفح، حيث تُفتح أبواب الحياة لأبناء فلسطين الشقيقة.

وفي ظل هذا المشهد، يقف الاحتلال أمام مرآة الهزيمة.. لم يستطع القضاء على المقاومة، ولم ينل أهدافه، بل وجد نفسه محاصرًا بأصوات العدالة، وحقائق الأرض، ووجوه الفلسطينيين التي تنطق بالحياة رغم كل محاولات الإفناء. غزة، التي أرادوا لها أن تُمحى، تعود كل يوم كأيقونة للكرامة، تسجل في صفحات التاريخ أن الحق لا يموت، وأن العدل وإن تأخر، قادم لا محالة.

الإشارة إلى الدور المصري هنا ليست ترفًا أو استعراضًا، بل ضرورة تفرضها الحقيقة والتاريخ؛ مصر، التي لا تتفاخر تجاه أشقاء الدم والجغرافيا والعروبة، إنما تؤكد نفسها دائمًا كضلع رئيسي في جسد الأمة، وكبوصلةٍ لا تختل في موازين القوى الإقليمية والدولية؛ إنها أمّ الأمة التي رفضت بكل حزم وإصرار المخططات التي سعت، منذ اليوم الأول للعدوان على غزة، إلى تهجير أهل القطاع إلى سيناء، مستغلة آلامهم ومأساتهم كذريعة لإعادة تشكيل خرائط الجغرافيا والقضية.
 
ذلك الرفض لم يكن مجرد موقف عابر، بل كان قرارًا إستراتيجيًا نابعًا من رؤية مصر العميقة للقضية الفلسطينية كقضية وجود لا مساومة فيها، ورغم الضغوط والإغراءات التي مورست، رفضت مصر أن تتحول إلى شاهد زور على مخطط يهدف إلى تصفية حق الشعب الفلسطيني في أرضه، ولقد جاء هذا الرفض كتجسيد لإيمانها بأن فلسطين ليست فقط وطنًا، بل قلبُ العروبة النابض الذي لا يمكن استئصاله أو تفريغه.

أما الولايات المتحدة، التي يعود رئيسها بانحيازٍ صارخ للكيان المحتل، ورغم دعمه اللامحدود للاحتلال، ورغم ألاعيب نتنياهو الذي أطال أمد الحرب هربًا من أزمات ومحاكمات تلاحقه داخليًا وخارجيًا، فقد وجدت نفسها أمام حقيقة واحدة: أن مصر لن تسمح بانتهاك الثوابت أو تجاوز الخطوط الحمراء.

هذا الموقف الثابت كان صخرةً تحطمت عليها كل مخططات الطغيان، إذ رفضت مصر أن تكون غزة جرحًا مفتوحًا بلا أفق، وأن يُكتب التاريخ على حساب سيادة الفلسطينيين وحقهم في العودة والبقاء.

إن الدور المصري في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار لم يكن مجرد وساطة عابرة، بل تجسيدٌ لحضور فاعل وقوة أخلاقية وسياسية لا تغيب عن أي معادلة. 

مصر كانت أول من قدّم مقترحات لوقف العدوان منذ بداياته، بل تجاوزت ذلك إلى تفعيل الجهود الإنسانية؛ وهي التي فتحت معبر رفح للمساعدات، وأشرفت على إدخال الأغذية، والمواد الإغاثية، والتجهيزات الطبية، إلى جانب دورها في تسهيل صفقة تبادل الأسرى والرهائن، فبنود الاتفاق الحالي ليست سوى صدى لمبادرة مصرية طُرحت في مايو الماضي، تلك المبادرة التي كانت خريطة طريق للسلام وصرخة في وجه العبث.

ولأن مصر لا تكتفي بالوقوف عند حدود الوساطة، فقد أعلنت استعدادها لاستضافة مؤتمر دولي لإعادة إعمار قطاع غزة، حاملةً على عاتقها مشروعات التعافي المبكر التي ستعيد الحياة إلى أرض دمرها الاحتلال، هذا هو دور مصر الذي لا ينفصل عن روحها التاريخية: حارسًا للقضية الفلسطينية، وسندًا للعروبة، ونبراسًا للعدالة الإنسانية.

هي مصر، التي لا تُثنيها التحديات ولا تخضع للإغراءات، لأنها ببساطة وطنٌ يليق به أن يكون قلب الأمة النابض، وضميرها الذي لا يخون.

مصر، مرة أخرى، تثبت للعالم أن الدبلوماسية حين تُمنح الأولوية على القوة، يمكنها أن تُحدث فارقًا عميقًا في مسارات الصراع، والصفقة الأخيرة لم تكن مجرد إنجاز عابر، بل جزءُ من إستراتيجية مصرية إقليمية أوسع، تسعى إلى تخفيف حدة الصراعات التي أنهكت الشرق الأوسط، في وقتٍ تتكالب فيه قوى دولية وإقليمية على تأجيج نيران الأزمات خدمةً لأجنداتها الخاصة.
  
لكن مصر، التي لم تقبل يومًا أن تكون متفرجًا صامتًا على مسرح الدم، لم تكن في هذه المعادلة وسيطًا تقليديًا؛ فقد لعبت دور الشريك الإستراتيجي بكل ما تملكه من خبرة ووعي، مستندةً إلى إدراكها العميق لتعقيدات هذا الصراع الممتد لعقود، واحتياجاته التي تتجاوز الحلول السطحية إلى معالجة الجذور، وحدها مصر استطاعت التحدث مع الجميع، بما في ذلك الأطراف التي يرفض العالم سماع صوتها، وكان هذا التوازن النادر انعكاسًا لالتزامها التاريخي بالقضية الفلسطينية، الذي لا يخضع لمزايدات اللحظة أو إملاءات السياسة.
  
إن الحنكة التي أدارت بها الدبلوماسية المصرية هذا الملف تعكس وعيًا عميقًا بمسئوليتها تجاه خلق بيئة مستقرة في الشرق الأوسط، بيئة لا تستقيم إلا إذا استُعيدت الحقوق الضائعة، وقُطع دابر الاحتلال، ووُضعت أسس السلام العادل.

لقد كان دور مصر في الصفقة الأخيرة أكثر من مجرد محاولة لوقف إطلاق النار؛ كان جهدًا لاستعادة الأمل في إمكانية تحقيق العدالة، وفي إعادة الحياة إلى أرواح أنهكها القهر والتشريد.

وكما قال الرئيس المصري بصدق وإيمان: “إن مصر ستظل دائمًا وفية لعهدها، داعمة للسلام العادل، وشريكًا مخلصًا في تحقيقه، ومدافعة عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني”، هذه الكلمات ليست مجرد تعبير سياسي؛ إنها خلاصة التزام عريق يُترجم على الأرض عبر خطوات مدروسة، جعلت من مصر منارةً للحكمة، وحارسًا على مصير شعبٍ لم ينكسر رغم القهر، في عالم تغيب فيه العدالة، تصبح مصر صوتًا للمظلوم، ويدًا تبني الجسور، وحصنًا يقف شامخًا في وجه كل محاولات التلاعب بمصير الأمة، إنها لا تقاتل من أجل نفسها فقط، بل من أجل بقاء الحق والإنسانية في وجه عالمٍ اعتاد أن يدير ظهره للضعفاء.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى