رأي

وعد ماكرون

كتبت ليلى الشايب, في العربي الجديد

على غير عادة السياسيين، الذين جعلوا (إلى وقت غير بعيد) من موسم الصيف، أو بعض فتراته، فسحةً لأخذ قسط من الراحة، وتجديد الطاقة وتأجيل القرارات الكبيرة إلى موسم العودة، وبعد أن غيّرت حرب غزّة إيقاع الحياة، وأربكت الأجندات، كما غيّرت الأمزجة في كلّ مكان، خرج الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عشية عطلة نهاية الأسبوع ليعلن عزم فرنسا الاعتراف رسمياً بدولة فلسطين خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول المقبل، وليفتح باباً لن يغلق سريعاً لردّات فعل وتعليقات رسمية وشعبية كاسحة، تراوحت بين الترحيب والتثمين والتشجيع والتقدير، وبين الاستنكار والرفض والتمييع والتشكيك والتهديد. وكان ماكرون يتوقّع ما ستثيره خطوته من زوابع أو ما ستحرّكه من نسمات صيف، حسب هوى أصحاب ردّات الفعل تلك. إعلان ماكرون أخيراً ليس مفاجئاً تماماً، فقد سبقته تصريحات مماثلة حدّدت شهر يونيو/ حزيران الماضي موعداً للاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينة المأمولة، ولكن الخطوة تأخّرت لاعتبارات فرنسية داخلية وخارجية، وأثار تأخّرها شيئاً من الاستهجان والتحفّظ إزاء ما اعتبره كثيرون مناورةً سياسيةً ماكرونيةً خالصةً تستهدف أطرافاً تسعى إلى السيطرة على القرار الفرنسي وإضعاف فرنسا لاعباً أوروبياً ودولياً مهمّاً. ومن دون إنكار حجم الخطوة الفرنسية في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بل خطورتها بالحسابات السياسية الخالصة على ماكرون نفسه، لا يتلخّص الأمر في رغبة في الخروج من الصف الغربي المنسجم عادة، أو التبجّح وخطف الأضواء، إنما يتطلّب ذلك كثيرا من الرويّة والتنسيق المُحكَم لضمان أقصى فرص نجاحها وقابليّتها لتكون سابقةً ومثالاً يحذو الآخرون حذوه، بدل عزل فرنسا وإحداث أزمات داخلها، قد تذهب بمن أقدم على هذه الخطوة العملاقة (إن أنجزت). فهل تجاهل ماكرون هذه الاعتبارات كلّها وقرّر خوض مغامرة غير محسوبة؟
تقول الأحداث والسياقات والظروف، التي أحاطت بالإعلان الفرنسي، إن تحرّك ماكرون وحكومته، وفي مقدّمتها خصوصاً وزير خارجيته جون نويل بارو، يأتي ضمن رؤية ثلاثية الأبعاد تقريباً لدور فرنسا ومكانتها داخل الاتحاد الأوروبي، وفي العالم الذي تتغيّر معالمه، وفي علاقتها بالعالم العربي والشرق الأوسط بشكل خاص، وهو في مخاض عسير لا ينبئ بخير لساكنيه ولا للقوى الباحثة عن مساحات تضمن استمرار تأثيرها ومصالحها فيه، بما فيها فرنسا. ويمكن لفرنسا، وهي تتحرّك ضمن هذا المثلث حادّ الزوايا، أن تستنجد بشعارات جمهوريتها من دون أن تبدو متصنّعةً أو متقمّصة دوراً لا يناسبها، وأهمها شعار “الحرية”. إن تزامن إعلان عزم فرنسا اعترافها بالدولة الفلسطينية مع الإفراج عن جورج إبراهيم عبد الله، أقدم سجين سياسي في فرنسا على خلفية انخراطه في النضال الفلسطيني، يشي بمعانٍ كثيرة في مقولة ربط الأقوال بالأفعال، رغم مأساة سجن استمرّت أربعة عقود، وقد وضع الإفراج عنه، ووصوله إلى بيروت، والتصريحات الأولى التي أدلى بها، ولم يتغيّر فيها شيء من التزامه بالقضية التي حُجب عنه النور بسببها 40 عاماً… وضع ذلك كلّه فرنسا تحت الضوء، تزامناً مع مواقف وتصريحات إسرائيلية وأميركية تنهش في الخطوة الفرنسية، وتحذّر من خطورتها وتتهمها بالتواطؤ والخروج عن الإجماع الغربي في وجه “الإرهاب”.

تصريحات إسرائيلية وأميركية تحذّر من خطورة الخطوة الفرنسية، وتتهمها بالخروج عن الإجماع الغربي في وجه “الإرهاب”

من دون الانتقاص من أهمية ما بادرت إليه فرنسا/ ماكرون، ولو مبدئياً ورمزياً، لا يمكن للمتابع أن يغفل التوقيت؛ إيغال إسرائيل في تجويع غزّة إلى حدّ لم يعد الصمت إزاءه ممكناً، ولو بتعلّة الصدمة والعجز، وبشكل ضاعف المخاوف الفردية والجماعية من خطر التوحّش الإسرائيلي والاستقواء غير المسبوق على الجميع، حلفاءً وخصوماً، والصمم المتعمّد، بل “المُحتقِر” كلّ نداء بالتوقف عن الإبادة متعدّدة الأشكال والوسائل، “احتقار” وتجاهل يعلّق عليه رئيس الدولة الأقوى، والحليف الأقوى دونالد ترامب، بكلمات محسوبة لا تتعدّى “الشعور بخيبة الأمل”، والحقيقة أنه شعور أكثر مرارةً وغضباً ممّا يدلي به أمام الكاميرات. أمّا جماهيريا وشعبياً، فقد ألّبت أفعال إسرائيل اللاإنسانية بالغة الشرّ والقسوة ملايين الناس حول العالم. والمحصّلة، تحطّم الثقة في حكومات الغرب وسقوط النموذج المتحضّر، وحالة من الغليان المتراكم يومياً في شوارع العواصم والمدن الغربية وساحاتها، تترجَم خوفاً وازدراءً لخطابات وشعارات تعجز في أن توصل الطعام إلى طفل ورضيع وشيخ، وأمّ يبكي أبناؤها ويجافيهم النوم من شدّة الجوع. في هذا الوضع بالذات لم تتحرّك فرنسا في هذا الاتجاه بصفتها دولة اختارت منفردة أن تفعل الصواب فقط، بل أيضا عضواً في مجموعة السبع الكبار، الذين تعوّل عليهم إسرائيل في دعمها الأبدي اللامشروط واللامحدود، مجموعة تقودها أميركا في الاقتصاد والسياسة، وقد رأت فرنسا ماذا فعل ترامب بها (وبالأعضاء الآخرين) في حرب تعرفاته الجمركية غير المسبوقة، وهي بهذه الخطوة في توقيتها وزخمها، تقود تمرّداً ديبلوماسياً وسياسياً داخل المجموعة، سوف تنبئنا التطوّرات لاحقاً بمآلاته، إمّا التماهي مع باريس في هذا التماشي، أو تركها تسير وحدها في الطريق إلى سبتمبر المقبل. وارتباطاً بالمواقف العربية، وفي رأسها موقف السعودية، تحرص فرنسا على التذكير بما تسمّيه “تنسيقاً عالي المستوى” مع الرياض من أجل دعم قيام دولة فلسطينية وحشد المواقف والأصوات لتحقيق الهدف المشترك، بما يخفّف الضغوط التي تُمارَس على المملكة من أجل الانضمام في أقرب الآجال إلى الاتفاقات الإبراهيمية، وتجاهل شرط الرياض بأن ترتبط الخطوة أولاً بمنح الفلسطينيين دولتهم التي طال انتظارها.
في تفاصيل الأحداث وتسلسلها أيضاً، كان لافتاً بشدّة إعلان ماكرون الخطوة الفرنسية المنتظرة، في اليوم نفسه الذي تناثرت فيه تصريحات الأطراف المشاركة في مفاوضات غزّة في الدوحة، في اتجاهات متضاربة سبّبت الارتباك وأثارت الحيرة والشكّ، حتى بين من حضرها وكان له انطباع جيّد ومتفائل. في ذلك اليوم، أعلن المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف فشل المفاوضات وهاجم حركة حماس، متّهما إياها بعدم المرونة والأنانية. وهو ما ردّت عليه الحركة لاحقاً بإبداء دهشتها من موقفه، قبل أن تفسّره بالرغبة في منح إسرائيل مزيداً من الوقت لتنفيذ مخطّطها، بكل بساطة. وفي باريس، وفي اليوم نفسه، جرى لقاء مثير للجدل بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر مهّد له المبعوث الأميركي توماس برّاك الموجود في العاصمة الفرنسية، فيما بدا “عصا وجزرة” بيد فرنسا، عصا الدولة الفلسطينية التي نذر نتنياهو حياته السياسية لإجهاضها، وجزرة التقارب السوري الإسرائيلي الذي لا يزال من المحرّمات، لكن باريس ترعاه وتحتضنه، وفي ظرف بالغ الحرج في سورية الجديدة، التي تعنيها كثيراً أيضاً، وباريس هي أيضاً العاصمة التي تخرج منها مبادرات هامّة ومؤثّرة تتعلّق بالشرق الأوسط المأزوم دائماً.
لا يمرّ الحدث من دون أن يجد المتابع نفسه مضطراً حتى من دون قصد، لمقارنة الموقف الفرنسي بمواقف نظرائه الأوروبيين الأكثر أهميةً، وخصوصاً ألمانيا، التي تبدو كأنّ الزمن يعود بها عقودا إلى الوراء، فيترجم ذلك تصريحات صادمة من قبيل قول مستشارها العاشر، فريدريش ميرز، إن “علينا شكر إسرائيل لأنها تقوم بالعمل القذر نيابة عنّا جميعاً”، ويترجم أيضاً عنفاً شديداً غير معهود ضدّ المتظاهرين في ألمانيا من أجل غزّة، وتنغمس أكثر فأكثر في الصراع الروسي الأوكراني أولويةً قصوى، فيما تستمرّ بريطانيا في تبنّي أنصاف المواقف وإطلاق تصريحات لا تلزمها بشيء، ما دفع أكثر من مائة نائب في مجلس نوابها إلى توقيع لائحة تطالب رئيس الوزراء كير ستارمر بالاعتراف بدولة فلسطين، اقتداءً بخطوة فرنسا التي أحرجت أطرافاً عديدة، فيما ذهب الزعيم السابق لحزب العمّال البريطاني جيريمي كوربين، والمتهم بمعاداة السامية، إلى إعلان تأسيس حزب سياسي جديد مؤيّد لفلسطين.

يشي تزامن إعلان عزم فرنسا اعترافها بالدولة الفلسطينية مع الإفراج عن جورج عبد الله بربط الأقوال بالأفعال

رغم الهجوم الذي تعرّضت له باريس، دقائق فقط بعد إعلان عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد أقلّ من شهرين (ولا يزال مستمرّاً)، بالانتقاص من وزنه وتأثيره قولاً وفعلاً، وربطه بشخص ماكرون الذي ما فتئ يثير حفيظة الرئيس الأميركي، ورئيس حكومة التطرّف الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزرائه، ورغم ميل مراقبين كثر إلى تفسير القرار الفرنسي بحاجة ماكرون إلى الخروج من أزمات داخلية وأخرى خارجية، وتراجع نفوذ فرنسا التقليدي في أكثر من مكان في أفريقيا، وبحثها عن نفوذ جديد، إلا أن الصفحة ليست بيضاء تماماً ولا سوداء تماماً فيما يجمع أو يفرّق بين فرنسا ومن يناكفونها اليوم، فللون الرمادي مساحة تسمح بقراءات مختلفة لا تكاد تجزم بشيء، فما صدر عن المبعوث الأميركي ويتكوف من اتهام “حماس” بإفشال المفاوضات، وما صدر عن ترامب من تهديد للمقاومة بأنها “تريد أن تنتهي وتموت”، وما أعلنه وزير المالية بتسلئيل سموتريتش من انتهاء “عرض التفاوض المهين مع الإرهابيين”… ذلك كلّه وجد صداه في تصريحات غريبة أطلقها وزير الخارجية الفرنسي، ملخّصها أنه “لطالما رفضت حماس حلّ الدولتين، وباعترافها بفلسطين، تقول فرنسا إن هذه الحركة الإرهابية على خطأ، ومعسكر السلام على صواب في وجه معسكر الحرب”.
إذا كان قصد باريس من هذه التصريحات إمساك العصا من الوسط، وتبريد الأعصاب التي اشتعلت بعد إعلانها المشهود، فقد أفسدت الموقف بشدّة، خصوصاً أن “حماس” عبّرت عن موقف أكثر تفاؤلاً وإيجابيةً، وإذا كان الهدف محاصرة المقاومة وعزلها بإعلان “معسكر سلام” هي ليست من ضمنه، و”معسكر حرب” هي في قلبه، فيما الحقيقة أن إسرائيل ورعاتها هم من يصبّون الزيت على النار لتبقى الحرب البشعة مشتعلةً، فمن البديهي أن يُفهم الإعلان الفرنسي على صبغته الجريئة الداعمة والبنّاءة، على أنه عامل جديد يضاف إلى أدوات الضغط الشديد الأخرى التي تمارس على الطرف الفلسطيني المفاوض، تظهره في مظهر المتعنّت الرافض لتسهيل الوصول إلى ما ينتظره الفلسطينيون وأحرار العالم منذ عقود: قيام دولة فلسطينية معترف بها دولياً.
تقدّم فرنسا (تأخّرت، وسبقتها 147 دولة اعترفت بفلسطين دولةً دائمة العضوية في الأمم المتحدة) اليوم على خطوة تاريخية، ولكن التباس الوضع وضبابيّته، وتشابك المصالح أو تنافرها، وحالة عدم اليقين، تأبى كلّها أن تمنح فرنسا شهادةً شجاعةً وحسن نيات مكتوبة بحروف واضحة ناصعة إلى أن يحين اليوم الموعود.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى