وطن يعيش فينا.
كتب محمد مفتي في صحيفة عكاظ.
عادة ما تزداد الخبرات الحياتية والعملية للإنسان مع تقدمه بالعمر، وباتساع تجاربه وتعدد قراءاته المعمقة للتاريخ يتمكن من الاطلاع على التجارب الحضارية لمختلف الثقافات عبر أرجاء العالم، ومن خلال كل ذلك يستطيع في نهاية الأمر تكوين فكرة أكثر تماسكاً ونضجاً عما يدور حوله، وتصبح أحكامه ومعاييره أكثر موضوعية وشمولاً عن ذي قبل، ولا شك أن تقييم الأحداث من حولنا ليس بالأمر الهين، ذلك أن افتقاد البعض للمعايير المناسبة والمعلومات الكافية عن حدث ما يؤدي -بدون جدل- لحكم ناقص أو مشوه.
ربما لا تتمكن الأجيال الحالية التي لم تتجاوز الثلاثينات من عمرها من الحكم على الواقع الراهن بنفس الكفاءة والحكمة التي يستطيع بها الأشخاص الأكبر عمراً الحكم عليه، وبدون شك لا يمتلك الكثير منهم المعرفة الكافية والشاملة لتقييم مسيرة التنمية التي عاشتها وتعيشها المملكة، فليس من سمع وقرأ كمن عاش وعاصر الأحداث بنفسه ولمس التغيرات الجوهرية التي طرأت على المجتمع خلال تحولاتها التدريجية، وأدرك مقدار ما تم إنجازه رغم العديد من الصعوبات والتحديات سواء كانت داخلية أو خارجية، وبخلاف ذلك يعد كثرة السفر والترحال لمختلف دول وبلاد العالم شرقاً وغرباً أحد العوامل المؤثرة كثيراً في وضع أحكام وتقييمات عادلة وموضوعية.
نشأت الأجيال التي ولدت خلال العقدين الأخيرين وسط مناخ غلبت عليه الحداثة والتكنولوجيا، لذا نجد الكثير منهم غير قادر على تحديد معالم التغير والتقدم التي غلبت على المملكة خلال الآونة الأخيرة، غير أنني كلما تفكرت قليلاً فيما يحدث حولنا من تطورات متلاحقة يكاد يصعب تصديقها في بعض الأحيان أجدني في حالة انبهار حقيقي سواء بسرعة وتيرة الإنجازات أو بمحتواها، وأتساءل بيني وبين نفسي هل ما تحقق هو حلم أم حقيقة، ففي كل موقف وحدث أمر به أجدني مرغماً على التفكير فيه والمقارنة بين الماضي والحاضر، فعلى سبيل المثال عندما أتوقف في إشارة مرور وأجد أن المركبة التي بجانبي تقودها امرأة، أعود بذاكرتي للوراء متذكراً كيف كانت النساء تجلسن في المقاعد الخلفية تاركات مقعد قائد المركبة للسائق، وهو أمر إجباري لجميع الأسر حتى ذوات الدخل المحدود منها، وهو ما كان يستنزف جزءاً من مواردها القليلة من الأساس.
عندما أدخل للشراء من أي متجر وأصادف نساء عاملات يقمن بخدمة العملاء أتذكر تلك الأيام التي كان ممنوع على النساء فيها منعاً باتاً العمل بحرية في أي مكان، وكان مجرد تصور خروج النساء للعمل في كثير من المجالات أشبه بضرب من ضروب الخيال، وكان علينا التعامل مع حرمان المجتمع من نصف طاقته العاملة باعتباره الوضع الطبيعي وقتذاك، وقد كان ذلك كله بتأثير من فكر الصحوة الذي فرض تلك الآراء بلا مبرر مفهوم.
تدور في رأسي أحياناً كثيرة الأحداث التي مرت بها المملكة وعاصرتها بنفسي كشريط سريع متلاحق من الذكريات، لا يمكنني منع نفسي وقتها من تذكر كم كان المجتمع السعودي منغلقاً على نفسه لا يجد فيه المواطن متنفساً إلا بسفره للخارج، وهو ما كان يستنزف موارد الدولة ويلقي بمواردها الثرية في جيوب الدول الأخرى، الآن لم تعد المملكة مفتوحة للجميع فحسب، بل غدت وجهة سياحية واستثمارية جذابة لكبار المستثمرين ورجال الأعمال وعمالقة الفن ورموز الرياضة في الشرق والغرب، المعتمرون الذين لم يكن مسموحاً لهم في ما سبق بالتحرك خارج حدود المشاعر المقدسة غدوا قادرين على زيارة أي مكان يحلو لهم داخل المملكة والتعرف على معالمها وآثارها العريقة، لقد فتحت المملكة أبوابها أمام العالم ليتعرف على سحرها الخاص وكنوزها الدفينة.
بسبب الفكر الصحوي الجامد فقدت المملكة الكثير من ثرواتها، كما تم استنزاف الكثير من مواردها وكانت مصدراً لخروج الأموال ودخولها لموازنات دول أخرى، أما الآن فقد أصبحت المملكة وجهة لاستقطاب الأموال والخبرات والكفاءات في كافة المجالات، وعندما أفكر في كيفية حدوث ذلك، أجد أن الطموح والحكمة وحسن الإدارة هي السبب في كل ما وصلنا إليه.
لقد أراد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز دفع المسيرة من خلال تمكين الأجيال الجديدة الشابة المؤمنة بالعدل والحرية والمساواة، فعهد للأمير الشاب محمد بن سلمان بتحقيق رؤيته، التي كان جديراً بتحقيقها بكفاءة مثالية، وتمكن من إدارة دفة القيادة بحكمة ومهارة بالغتين مكنتا المملكة من بلوغ المكانة التي تصبو إليها وتستحقها بالفعل.
من الأهمية بمكان تقييم تجارب النهوض بالدول وتحديثها من خلال معايير موضوعية وليس من خلال معايير أنانية ضيقة، كما يجب تقييمها من خلال المنهج المقارن، كيف كانت وكيف أصبحت، معايير كثيرة يجب وضعها في الحسبان عند التقييم لا يجب أن تتقيد بنرجسية البعض ورغبتهم في السيطرة على كل شيء، فالأمور هنا تقاس من منطلق مصالح الأمة وليس الفرد.
كلمة أخيرة: المملكة العربية السعودية ليست فقط وطنا نعيش فيه، بل هي وطن يعيش فينا.