ورطة الطوفان.

كتب د. محمد حسين الدلال في صحيفة القبس.
كان الملك ألفونسو السادس ملك قشتالة من أشد ملوك الأفرنجة نكايةً بممالك الطوائف في الأندلس، وقد أذاق المسلمين في الأندلس العذاب والويلات، وقد سعى إلى ضم الأراضي المسلمة التي كانت تحت يد أهم ملوك الطوائف المعتمد بن عباد، فقرر المعتمد بن عباد بعدالة وحكمة حينها أن يستعين بإخوانه في الدين من المرابطين في المغرب لتوحيد الأندلس، ورد الأفرنجة وإفشال مخططاتهم، وعندما جادله أتباعه في ذلك الأمر، قال مقولته المشهورة: «رعي الجمال خير من رعي الخنازير»، أي إنّ كونه تابعاً لابن تاشفين قائد المرابطين في المغرب، أسيراً يرعى جِمالَه في الصحراء، خيرٌ من كَونه مُمزقاً لألفونسو أسِيراً، يرعَى خَنازِيره في قَشتالة، وموقف بن عباد خيرٌ من مواقف البعض الذين سلّموا رقابهم لقوى عالمية، أساءت إليهم وأساءت إلى قيمهم وأساءت إلى محيطهم وإخوتهم في الإقليم العربي.
مآلات العقد الأخير من الزمان خلقت حالة من التمكّن لما يسمى بدول ونهج الثورة المضادة للربيع العربي، بل جعل هذا الفكر والنهج أتباع الثورة المضادة يتصوّرون أنهم يستطيعون تشكيل العالم العربي وفقاً لهواهم أو مصالحهم، أو اتفاقهم مع عدد من دول الغرب، بل وصل الأمر عند البعض منهم إلى محاولة الخروج من القيم الإسلامية العربية والثوابت التاريخية المتعلقة بالقضية الفلسطينية أو مبادئ حقوق الإنسان، من خلال المضي سريعاً في التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، متجاهلين فشل صور التطبيع السابقة التي لم تخدم الدول العربية المطبِّعة، ومتناسين جرائم الكيان المحتل اليومية، وعربدته في الأراضي المحتلة.
حجم ورطة أتباع الثورة المضادة من دول وأفراد بشأن طوفان الأقصى كبير جداً، فالطوفان الفلسطيني أربك مسيرة أتباع هذا المنهج الاستسلامي للكيان الصهيوني المحتل، فطوفان الأقصى أحرج عدداً من دول الثورة المضادة في المضي بالتطبيع مع الكيان المحتل، وطوفان الأقصى أثبت أن نهج أتباع الثورة المضادة لم يخلق شرقاً أوسطاً آمناً ومستقراً ومتقدماً، والطوفان كشف زيف بعض أتباع الثورة المضادة في الدفاع عن الحقوق الإنسانية العامة للأمة العربية، أو الاهتمام بقضاياهم القومية والإسلامية، وعلى الأخص القضية الفلسطينية، وكشف طوفان الأقصى مدى رخص قيمة الإنسان العربي في العقل الغربي، وعدد من أتباعه في العالم العربي.
ورطة أتباع نهج الثورة المضادة واضحة للعيان، فمنهم ألجمته مفاجأة طوفان الأقصى، فلم يدرِ ما العمل، ومنهم من فضّل أن ينتظر النتائج ويترك للعالم الغربي، وتحديداً أميركا، إدارة المشهد القائم، والبعض الآخر، ممّن هم أشد ورطة، فضّلوا الانغماس في الدم الفلسطيني، متواطئين مع الغرب والكيان المحتل، متجاهلين بذلك كل القيم الإسلامية والإنسانية، ولعل الورطة الكبرى لهؤلاء تكمن في قيام حركة مقاومة صغيرة الحجم والعدة، يقف وراءها شعب فلسطيني مقاوم، بصناعة طوفان خارق للعادة في مواجهة الكيان الصهيوني المحتل، لم تستطع الدول العربية مجتمعة بجيوشها وعتادها أن تقوم به، بل الورطة أن حركة المقاومة في غزة أصبحت بفعل الطوفان منارة للنور والمستقبل الواعد في وسط الظلام الذي تعيشه القضية الفلسطينية، ولأنه طوفان ضمن مخاض غير معلوم النتائج والمآلات، فمن المنتظر ان تتعمق ورطة أتباع الثورة المضادة، لأنها تصطدم مع تطلعات الأغلبية العظمى للشعوب العربية والإسلامية، والحقوق المستمدة من دين هذا المجتمع ومن قيم حقوق الإنسان العالمية.
دعوة صادقة إلى ضرورة إعادة النظر في مواقف بعض الدول تجاه الأوضاع الإقليمية، وبالأخص القضية الفلسطينية، فلا يمكن الاستمرار بالانسياق وراء التوجهات والخطط الغربية، التي تسعى إلى القضاء على القضية الفلسطينية وإعلان موتها، وهي دعوة أيضاً للانتباه واليقظة من مخططات غربية تسعى إلى توريط عدد من الدول العربية للقيام بأدوار في فلسطين، تخدم مخططات الكيان الصهيوني المحتل، وتصطدم مع تطلعات الشعب الفلسطيني بالمقاومة والتحرير، ويجر ذلك إلى أهمية الانتباه والعمل ضد ما يخطط له الغرب بصفة عامة لهدم أركان الدول العربية وطمس هويتها وذهاب ريحها، وهي دعوة للعمل الإستراتيجي المشترك من أجل إقرار الحق والعدل لقضية المسلمين والعرب الأولى فلسطين، وأيضاً لنهضة صادقة للأمم والشعوب العربية بعيداً عن الانسياق خلف المخططات الغربية للإقليم العربي قبل فوات الأوان، ووصول الأمر الى ما وصل إليه ملوك الطوائف في الأندلس، وبلا شك أن رعي الجمال والعمل مع أهلها خير من رعاية الخنازير والعمل مع أهلها.