كتب أسامة أبو ارشيد في ” العربي الجديد”: لم يكن الترحيب الحافل الذي حظي به الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في واشنطن، يوم الأربعاء الماضي، تعبيراً حقيقياً عن الألقاب والصفات التي أسبغتها واشنطن عليه، والتي تتمحور حول الزعيم البطل الفذ. ويكاد يخيل للمرء أن إدارة الرئيس جو بايدن، وقيادة الكونغرس الحالية الديمقراطية، وشريحة واسعة من الإعلام الأميركي السائد يتمنى لو كانت البنية الجسدية لزيلينسكي تتيح مماهاته مع الشخصية الأميركية العسكرية الأميركية الشهيرة، رامبو، والتي جسّدها الممثل سيلفستر ستالون. في المقابل، واضح أن زيلينسكي هذا مهووس، إن لم يكن مسكوناً بالرمزية والأسطرة اللّتين يقدم بهما في العالم الغربي، على أساس أنه يجسّد “داود الأوكراني” الذي يتصدّى ببسالة لـ”جالوت الروسي”. وهو لا يكتفي بالحفاظ على اللباس شبه العسكري الذي يظهر به دائماً، حتى خلال زيارته البيت الأبيض والكونغرس، بل وصل به الأمر إلى تحدّي الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لمنازلته في الحلبة.
من الناحية المبدئية، لا تشكّك هذه السطور بالبطولات التي يسطّرها الأوكرانيون في مواجهة عدوان روسيا دفاعاً عن أرضهم وشعبهم، وصمودهم واستبسالهم هنا يستحقان الإشادة. حتى زيلينسكي يستحقّ الإشادة كذلك بقيادته وعزيمته، فهو رفض الفرار من عاصمة بلاده طلباً للنجاة بحياته مع بدء الغزو الروسي في نهاية فبراير/ شباط الماضي، عندما كانت المعطيات المتوفرة ترجح احتلالاً روسياً سريعا لكييف، ومن ثمَّ القبض عليه أو قتله. لكن، هذا لا يعني أن الرجل بطل بالمطلق، أو زعيم ملهم، وهو قطعاً لا يقود دولة عظمى، ولا حتى لديها فرصة أن تكون كذلك، كما يتوّهم ويقدّم نفسه وبلاده، في حين يربت الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، على كتفيه، معزّزين هذا الوهم عنده. الحقيقة التي تخفى على زيلينسكي، أو أنه ربما يعلمها، وهو الأرجح، أن الغرب يُعَظِّمُهُ في عين نفسه، ويبالغ في تمجيد بلده وصلابته كي يستمرّا في تنفيذ مخططه لاستنزاف روسيا التي سقطت ببلاهة منقطعة النظير في الفخ الأميركي المتمثل في مستنقع أوكرانيا.
نعم، تنزف روسيا بغزارة في أوكرانيا، وهي ظهرت عارية في ميزان القوى العظمى، واقتصادها يئن تحت وطأة العقوبات، وزعامة بوتين اهتزّت في نظر شعبه، ولا تستبعد إطاحته أو التخلص منه. لكن ثمن ذلك كان وما زال كارثياً على أوكرانيا. ليست فقط وحدتها الجغرافية ما تمَّ المسُّ به، بل طاول الدمار كل جزء وكل شيء فيها.
بمعنى آخر، هذه حرب كارثية على أوكرانيا كما على روسيا، وحتى وإن انتهت بهزيمة الطرف الروسي المعتدي، فالثمن سيكون باهظاً على الأوكرانيين. الولايات المتحدة، تحديداً، أرادت هذه الحرب لاستنزاف روسيا وتحييدها قوة عظمى في أوروبا كي تتفرّغ للمارد الصيني، وتوصل رسالة تحذير إليه في تايوان. في خطابه أمام الكونغرس، يوم الأربعاء الماضي، خاطب زيلينسكي النواب والشيوخ الأميركيين، قائلاً: “الأموال (التي تقدّمونها لنا) ليست صدقة، بل هي استثمار في الأمن العالمي والديمقراطية”. يعلم زيلينسكي أن بعضهم متحفّظ على المساعدات الهائلة التي تقدمها واشنطن لبلاده، خصوصاً في ظل معدّلات التضخم الأميركية المرتفعة. منذ بدء العدوان الروسي، أواخر فبراير/ شباط الماضي، قدّمت الولايات المتحدة حوالي 50 مليار دولار لأوكرانيا، منها حوالي 23 مليار دولار مساعدات عسكرية. في المقابل، بلغت التعهدات الأوروبية الرقم نفسه، وحوالي 12 مليار دولار جاءت من دول أخرى. ويبدو أن الكونغرس على أعتاب المصادقة على 45 مليار دولار إضافية مساعدات لأوكرانيا في الأشهر المقبلة، وستتبعها حزم جديدة.
كلام زيلينسكي صحيح. هذه الأموال الأميركية “ليست صدقة”، ولكنها كذلك “ليست استثماراً في الأمن العالمي والديمقراطية”. هي بالأحرى استثمار في استمرار الهيمنة والعظمة الأميركيتين عالمياً، لكن على رقعة الشطرنج الأوكرانية، وبأشلاء شعبها. نجح الأميركيون في اللعب على وتر الممثل، أو المهرّج زيلينسكي، كما نجحوا في التلاعب في غرائز بوتين العدوانية وأوهام عظمة روسيا البائدة وإلهاميته المتخيلة. ومن ثمَّ، تجد أميركا تضيق الخناق على روسيا في الاقتصاد والديبلوماسية، في وقت تستنزفها عسكرياً عبر أسلحة دفاعية متقدّمة تقدّمها للأوكرانيين، من دون أن تتورّط في تقديم أسلحة هجومية بالتقدم نفسه. لا تريد واشنطن أن تخرج اللعبة عن حدودها المرسومة وتجد نفسها في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، على الأغلب ستكون نووية، ذلك أن موسكو ليست في وارد كسب معركة تقليدية، لا مع الولايات المتحدة ولا مع حلف شمال الأطلسي (الناتو).
من أجل ذلك كله، ستستمر الولايات المتحدة في الاستثمار في “الرامبوية” المختلقة لزيلينسكي، حتى تطمئن إلى أن روسيا قد استنزفت إلى الحد الذي تريده، وبعد ذلك تفرض عليه تسوية سياسية، لن تعطي روسيا كل ما رامته من الحرب، لكنها قطعاً لن تحقق لأوكرانيا كل ما تطالب به. بعد ذلك، ستسقط ورقة زيلينسكي، وقد يتم استبداله، ولن يبقى من بطولاته إلا ما قد تسطره بعض كتب التاريخ مضافاً إليها تهوّره، ذلك أنه قبل أن يكون بيدقاً في يد أميركا لإدماء روسيا، وقد فعل، ولكن بثمن فادح دفعته بلاده وشعبه. أما ثالثة الأثافي، أن ينتهي الحال بأوكرانيا من دون العضوية في “الناتو”، وهي الصنارة التي اصطيدت بها روسيا.