رأي

واشنطن في غزة: أداة احتلال ناعمة بمظهر الإغاثة

كتب د. خالد العص في صحيفة الدستور.

ثلاث محاولات إنسانية قامت بها الولايات المتحدة في غزة، وكل واحدة منها كشفت الوجه الحقيقي لسياسة القمع والقتل التي تروجها تحت ستار المساعدات. واشنطن، التي تُسخّر مليارات الدولارات لدعم آلة القتل الإسرائيلية، تحاول عبر حملات إعلامية مكثفة أن تُظهر نفسها بثوب الرحمة والإنسانية، بينما تسقط الطرود الغذائية فوق رؤوس الجياع، ويُقتل الأطفال والنساء تحت أنظارها.

في مارس 2024، أطلقت الإدارة الأمريكية أولى محاولاتها بإسقاط المساعدات جويًا، على الورق، مبادرة إنسانية لإنقاذ المحاصرين، وعلى الأرض، كانت كارثة مدوية، طرود تغرق في فوضى التوزيع العشوائي، والنساء والأطفال يُتركون جانبًا، بينما يتدافع الرجال لتلقي المساعدات. هذا الإجراء أوقع عشرات القتلى في صفوف المدنيين، ما دفع واشنطن إلى التراجع في محاولة فاشلة للحفاظ على صورتها.

ثم جاء الميناء العائم الباهظ التكلفة، الذي أعلن عنه بايدن على أنه بصيص أمل لغزة، لكنه في الحقيقة كان مجرد فخ استخباراتي، وبحسب تقرير هيومن رايتس ووتش، استخدم الاحتلال الميناء لجمع المعلومات، وأدى إلى مجزرة النصيرات التي أزهقت أرواح أكثر من 200 فلسطيني، بينهم نساء وأطفال. الميناء العائم كان مسرحية مدبرة كشفها الواقع المرير، حيث كان أداة لجمع الأسرى وتصفية المدنيين، كما وصفه أحد الناشطين الفلسطينيين.

أما المحاولة الثالثة فتتمثل في مؤسسة غزة الإنسانية المثيرة للجدل، التي أعلنت واشنطن تأسيسها بدعم إسرائيلي صريح، لكن هذه المؤسسة سرعان ما كشفت عن وجهها الحقيقي القاسي، حيث تحولت مراكز التوزيع التابعة لها إلى فخاخ مميتة على أيدي قوات الاحتلال، وسقط ضحايا بكثرة بالقرب من مواقع عملها في جنوب القطاع. استقالة كبار المسؤولين الأمريكيين وانسحاب الأمم المتحدة كانتا بمثابة اعترافات صامتة بفشل هذه المبادرة، التي افتقرت للحيادية والمهنية، وكانت في الواقع أداة تخدم مصالح الاحتلال في إذلال سكان غزة وارتكاب المزيد من الجرائم بحقهم.

إن مأساة غزة ليست بحاجة لطرود تطير في الهواء، ولا إلى موانئ تجسسية، ولا مؤسسات رقابية تراقب أنفاس الجوعى، ما تحتاجه غزة هو وقف المجازر، وإنهاء الحصار، ومحاسبة القتلة، واعترافٌ بأن الحياة ليست مشروعًا مشروطًا بالموافقة الإسرائيلية أو الرضا الأمريكي.

لقد سقطت كل الأقنعة، وانكشف مسرح «العمل الإنساني» الأمريكي، الذي تلطّخ بالدم الفلسطيني، وتحول إلى أداة استعمارية جديدة، لم تعد واشنطن طرفًا في المعادلة، بل أصبحت شريكًا في الجريمة، والنفاق لا يُخفي المجازر، بل يضاعف الألم، ويعمّق الجرح.

ورغم كل ذلك، لم تكن غزة يومًا ضحية صامتة وسط الركام والجراح، ينبض قلبها بالمقاومة، الناس هناك لا ينتظرون الطرود ولا يثقون بالموانئ الطافية، بل يعتمدون على شبكاتهم الشعبية، وشبابهم المتطوعين، وأطبائهم تحت النار، ومعلميهم الذين يدرّسون في الخيام. المطبخ الشعبي بات أقوى من المساعدات الجوية، والعيادة الميدانية أصدق من وعود المؤسسات الدولية، وفي كل حيّ، تنمو مبادرات أهلية تقاوم الجوع بالحصة، وتقاوم الاحتلال بالكلمة، وتؤمن أن الكرامة تُنتزع بثبات من تحت الأنقاض.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى