واشنطن تصر على حضورها مع عقلاء العالم في المغرب الإفريقي

كتب طالع السعود الأطلسي, في العرب:
عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017 لم تكن مجرد عودة شكلية بل مثلت مدخلًا لاستعادة إفريقيا لذاتها واستنهاض قدرتها على تملك مصائرها الإستراتيجية: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
التفعيل الملموس للتطوير الاستراتيجي للهوية الإفريقية للمغرب، وملؤها بإنشاء وتنويع المعابر المغربية إلى “الوقائع” الإفريقية في جريانها المتعدد المصبات: الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية؛ ذلك التفعيل أشرع البوابة المغربية إلى إفريقيا لتستدعي “العالم” إليها.
عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، في تموز – يوليو 2017، لم تؤشر فقط على عودة بلد مؤسس للوحدة الإفريقية وفاعل في الحركية الإفريقية التحررية ضد الاستعمارات التي عانت منها، ووازن استراتيجي في الكيان الإفريقي، بل أيضًا مثلت مدخلًا لاستعادة إفريقيا لذاتها، ولاستنهاض تملكها لمصائرها الإستراتيجية: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
المغرب كان قد انسحب سنة 1984 من منظمة الوحدة الإفريقية، لكنه لم “يغادر” إفريقيا… أبقى لهويته الإفريقية جذوتها، ورعاها بتكثيف وتنويع علاقاته الإفريقية مع دولها وشعوبها، سياسيًا، اقتصاديًا ودينيًا. وسيقول الملك محمد السادس في خطابه أمام القمة 28 للاتحاد الإفريقي، بأديس أبابا، لترسيم عودة المغرب، يوم 31 كانون الثاني – يناير 2017: “إن سنوات البعد المغربي عن الاتحاد الإفريقي سمحت بتبيان مدى حاجة المغرب لإفريقيا، ومدى حاجة إفريقيا للمغرب”. ودلل العاهل المغربي على جدية وجدة التفاعل المغربي-الإفريقي بقوله: “ما بين سنتي 1956 و1999، تم التوقيع على 515 اتفاقية (مع دول إفريقية)، في حين أنه منذ سنة 2000 إلى اليوم (نهاية سنة 2017) وصل العدد إلى 949 اتفاقية، أي حوالي الضعف”.
المغرب لم يكتفِ بالشعارات بل رسّخ حضوره الإفريقي بمشاريع ملموسة كأنبوب الغاز نيجيريا-المغرب وميناء الداخلة الأطلسي مؤكدًا مبدأ رابح-رابح في التعاون جنوب-جنوب والتنمية المشتركة
المغرب لم “يطعم” علاقاته الإفريقية شعارات تلمع عند إطلاقها وسرعان ما تخبو بعد استهلاكها إعلاميًا… المغرب انهمك في إرساء روافع تترسخ في ملموسية الحياة الإفريقية، ما دعا إليه من تنمية مبدأ رابح-رابح في العلاقات جنوب-جنوب، ضمن استراتيجياته التنموية الوطنية.
أبرز علامات ومحطات ذلك المسار: أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، والذي يشرك 13 بلدًا إفريقيًا أطلسيًا في مشروع تنموي نهضوي لها جميعها، وتستفيد منه دول إفريقية غير أطلسية، وهو على امتداد 5600 كلم.
علامة أخرى بارزة تعزز التوجه الإفريقي للمغرب، وهي معبر جاذب وسلس وموصل للتعاون الدولي مع إفريقيا، وأساسًا منه تدفق التعاون الأوروبي معها بنفس جدية وقواعد نوعية… إنه مشروع بناء ميناء الداخلة الأطلسي، وهو “صنو” ميناء طنجة المتوسط، وبصيغة متطورة ومزيدة من حيث تجويد استقبال الناقلات البحرية بكل أنواعها، ما يرشحه إلى أن يكون الميناء الأكبر في إفريقيا.
العلامتان الأولى والثانية أنتجتا لدى الملك محمد السادس المبادرة الأطلسية تجاه دول الساحل والصحراء، وهي في تشكل جسرا لها، يدعم طموحها لعبور مسار نوعي في طموحها التنموي. ولأن المبادرة جدية وصادرة عن تصور استراتيجي، يواكبها ملك المغرب شخصيًا… إذ كان قد استقبل وزراء خارجية تلك البلدان يوم 28 نيسان – أبريل 2025، في الرباط. ومؤخرًا في نيويورك، عقد السيد ناصر بوريطة اجتماعًا مع نظرائه من بوركينا فاسو، مالي، النيجر وتشاد، للوقوف على آخر تطورات ومراحل ومتطلبات إرساء تلك المبادرة عمليًا. إنه المغرب الذي يفيد مشروعه التنموي بتوسيع وتنويع شراكاته ومجالاته ومخصباته، وهو في الآن نفسه يفيد تلك الشراكات بمردودية التعاون التنموي.
إفريقيا اليوم، هي ضمن أساسات المشروع التنموي المغربي، هي في ثناياه البنيوية وفي مراميه الإستراتيجية. وفقط خلال شهر أيلول – سبتمبر، المشرف على التواري، ما يؤشر على الحضور القوي لإفريقيا في السياسات المغربية: السياسية، الاقتصادية والدينية.
رئيس الحكومة المغربية، عزيز أخنوش، خلال كلمته في الدورة 80 للجمعية العامة للأمم المتحدة، في نيويورك، عاد إلى التأكيد على أن المملكة المغربية، بالمبادرات والتوجهات الملكية للملك محمد السادس، أوقعت إفريقيا في صلب المبادرات الكبرى لمشروعها التنموي… وأنها ليست فقط أولويته في علاقاتها الدبلوماسية، بل تراها فضاء طبيعيًا لتنميتها. إنه إلحاح مغربي استراتيجي على إفريقية المغرب، والتي تؤهل المغرب لإفادة إفريقيا.
وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، أعلن في نيويورك نفسها “عن عقد أول مؤتمر دولي حول ضحايا الإرهاب في إفريقيا، والذي سيشكل تحولًا نوعيًا في الدعم الدولي لضحايا الإرهاب في إفريقيا…”، وذلك يومي 2 و3 تشرين الأول – أكتوبر المقبل. وعقد هذا المؤتمر في المغرب ليس شكليًا، هو تعبير عن الفعالية السياسية، الاقتصادية والعملية المغربية في التصدي للإرهاب الذي تعاني منه إفريقيا… إذ إن الإحصائيات تقول بأن حوالي 60% من ضحايا الإرهاب هم من إفريقيا. في شهر آب – أغسطس الأخير، تحدث الإعلام الدولي عن نجاح تدخل للمخابرات المغربية – المعروفة باسم DGED – في تحييد أحد قادة بوكو حرام، في النيجر، إسنادًا لعملية للجيش النيجيري. وهي عملية ضمن الدعم الفعال للمخابرات المغربية في مواجهة الإرهاب في إفريقيا. وهو ما تثمنه دول إفريقية عديدة.
السياسة الحكيمة للمغرب، منذ استقلاله، بممارسته الاستقلال في إدارة علاقاته الدولية، أتاحت له أن يوفر رصيدًا هامًا من المصداقية في كل علاقاته الدولية، وبمنأى عن التحالفات والأحلاف، وفيها يفيد ويستفيد في مجالات الاتفاق، وباحترام للحق في الاختلاف
مؤخرًا أيضًا، حضرت إفريقيا في خلفية منجزات دبلوماسية واقتصادية هامة، فقط في شهر أيلول – سبتمبر هذا، اتفاق الحوار الاستراتيجي مع الصين، وتدشين معمل المركبات المدرعة الهندي في المغرب.
السياسة الحكيمة للمغرب، منذ استقلاله، بممارسته الاستقلال في إدارة علاقاته الدولية، أتاحت له أن يوفر رصيدًا هامًا من المصداقية في كل علاقاته الدولية، وبمنأى عن التحالفات والأحلاف، وفيها يفيد ويستفيد في مجالات الاتفاق، وباحترام للحق في الاختلاف.
باختصار، الصين تطورت من المرتبة 13 في سلم الاستثمار في المغرب، قبل سنوات، إلى المرتبة الثالثة اليو. والاتفاق الاستراتيجي الذي وقعه الوزير المغربي للخارجية في بكين مع نظيره الصيني، يروم الوصول بالاستثمارات الصينية إلى ما يفوق 10 مليارات دولار؛ منها مصنع الألمنيوم الأخضر بقيمة 3 مليارات دولار، ومصنع البطاريات الكهربائية بقيمة 5.6 مليار. وفي كل ذلك تقع إفريقيا في موقع الجاذب والهدف معًا.
المغرب، القوي بمشروعه التنموي، الوطني المبنى والإفريقي الأفق، هو الذي شجع الهند على الثقة فيه وفي ممكناته التي تحفل بها امتداداته الإفريقية، على بناء أول مصنع مغربي-هندي لتصنيع المركبات المدرعة، وذلك في أول خروج لذلك المصنع من الهند… العلاقات تغذي الفعاليات وليس مجرد النوايا الطيبة والشعارات… والهند لمست ذلك، وتلمسه إفريقيا أيضًا.
القناعة الدولية بوقف الشغب ضد المغرب في جنوبه، لها اليوم أساس مادي، واقعي وتاريخي. محاولة إطالة عمر “الشعننة” الانفصالية ضد الوحدة الوطنية المغربية، لها اليوم رادع دولي مصمم، ويناصر الإصرار الوطني المغربي الحاسم والحازم.
وأنا أحرر هذا المقال، الخميس 25 سبتمبر، نزل في الإعلام خبر لقاء وزير الخارجية المغربية، السيد ناصر بوريطة، بمساعد وزير الخارجية الأمريكية، كريستوفر لاندو، والذي أعلن فيه المسؤول الأميركي أن الإدارة الأميركية توجه المستثمرين الأميركيين إلى الأقاليم الجنوبية المغربية بأنشطتهم الاستثمارية، في سياق اعتراف الإدارة الأميركية بمغربية الأقاليم الصحراوية للمغرب… ويضيف بلاغ اللقاء استعداد الإدارة الأميركية للعمل بالتنسيق مع المغرب من “أجل النهوض بالازدهار والسلم والاستقرار في المنطقة”. وهي الجملة التي تقول الكثير عن العزم الأمريكي للتدخل من أجل إطفاء موقد العداء للمغرب في جنوبه. والذي طال نصف قرن، وبات مجرد مزعج في وضع منطقة بكاملها.
عطفًا على ما سبق، لا يحتاج الأمر لشرح؛ يحتاج فقط لمن يستنتج منه الموقف الضروري اتخاذه، بلا تردد، لجمع حقائب العداء للمغرب والانسحاب إلى متلاشيات التاريخ.
العداء للمغرب يلهث في الوقت بدل الضائع، وقد انفض من حوله المدد، ويكاد ينضب… ويبقى مسار المستقبل مفتوحًا أمام من ينشد حياة مفعمة بمغانم إعمال العقل وإذكاء الأمل.




