هولندا: يمين اليمين الأوروبي
كتب مدى الفاتح في صحيفة العربي الجديد:
من المفارقات أن الحزب، الذي يقوده اليميني الهولندي المعادي للإسلام، غيرت فيلدرز، اسمه حزب الحرّية، يبني برنامجه على إقصاء المسلمين وعلى وعود حظر الحجاب والمساجد والقرآن.
يبدو ذلك أشبه بالأحزاب الفاشية، التي كانت تعمد إلى وضع مفردات مثل “الديمقراطية” و”الحرية” في خطابها ولافتاتها. ليست المشكلة هنا، بل في تقدّم هذا الحزب، الذي يحمل رؤية مهووسة بالآخر، في الانتخابات التشريعية الهولندية أخيرا، وحصوله على أكبر عدد من الأصوات. أثار فوز فيلدرز، الذي يقترح على المسلمين مغادرة البلاد إن أصرّوا على إظهار ثقافتهم أو إعطاء الأولوية لأحكام دينهم قلقاً لم يقتصر على أبناء الجالية الإسلامية، وإنما أصاب كثيرين ممن خشوا أن يقود ترسيخ هذا الخطاب إلى أزمة اجتماعية، خصوصا في ظل التحريض، الذي بدأ الإعلام يمارسه، على مواطنين أو مقيمين، لمجرّد خلفيتهم أو دينهم.
هنالك موجة يمينية ممتدّة في أوروبا، فمن المتوقع، على سبيل المثال، أن تقع فرنسا فريسة للناخبين اليمينيين في غضون الأعوام المقبلة، في حين تتقدّم النازية الجديدة في خطوات متسارعة في ألمانيا، أما في إيطاليا فإن “إخوة إيطاليا” اليميني قد نجح بالفعل في الفوز، والحصول على الرئاسة، وإن كانت ممثلته جورجينا ميلوني عدّلت من خطابها وتوجّهها بعد الوصول إلى السلطة.
فيلدرز وحزبه يتميزان بأنهما من أكثر الأحزاب يمينية، ففي حين يتهرّب أولئك من الظهور بمظهر المتطرّف الديني أو المتعصّب العرقي، فيكتفون بانتقاد الإرهاب أو جماعات الإسلام السياسي، لا يخفي فيلدرز، الذي يظهر بشعبية كبيرة، كراهيته الإسلام نفسه، الذي لا يرى فيه إلا أيديولوجيا عنف لا تأتي سوى بالإرهاب، ولا يجب أن يكون لها مكان في هولندا.
بالحديث عن المعاداة المفتوحة للإسلام والمسلمين، لا يسع المرء إلا أن يقارن بحال اليهود، الذين لا يصعب فقط أن تنتقد شعائرهم أو رموز ثقافتهم، بل بات من الصعب، في أغلب المحافل الأوروبية، أن تنتقد الفكرة الصهيونية أو حتى السياسات الإسرائيلية. في المقابل، في وسع حزب أو تيار سياسي أن يبني مشروعاً كاملاً على مواجهة الدين الإسلامي والاعتداء على حرّيات أتباعه، من دون مساءلة. يرتبط اسم فيلدرز في الإعلام الغربي بصفته “المعادي للإسلام”. ولا يتوقّف هذا الإعلام برهة للتفكير في كيفية السماح لحزب بهذه الأيديولوجيا أن ينمو وأن يستمتع بحرية زرع الكراهية بين أبناء الشعب الواحد.
لا يعتذر فيلدرز عن الإساءة للنبي محمد (ص)، بل يرى أن الرسوم المسيئة يجب أن تكون في كل مكان وأن توزّع للأطفال، بغرض إرسال رسالة تحدٍّ للغضب الإسلامي ولإظهار عدم الاكتراث بأي تهديد
لا يعتبر فيلدرز أن المشكلة تقتصر على المراكز الإسلامية، التي تنتج متطرّفين، كما يدّعي يمينيون آخرون في تحايل على مساعي التضييق على المسلمين في أماكن تعبّدهم، بل يجب برأيه ووفق عبارته “تفكيك” جميع المساجد. بطبيعة الحال، الجناح الثاني لخطاب فيلدرز معاداة الأجانب والمهاجرين، لكن هذا البند ليس منفصلاً عن بند كراهية المسلمين، فحزب فيلدرز يرى أن أغلب الوافدين هم من بلدان الجنوب ذات الأغلبية المسلمة. ولذلك، مزيدٌ من الهجرة، وبجانب ما يُحدثه ذلك من ضغط اقتصادي، يعني مزيداً من “أسلمة” البلاد.
بهذا الصدد، يقترح فيلدرز غلق الحدود ووقف قبول اللاجئين من الدول الإسلامية، بل تعليق اتفاقية شنغن، التي تتيح حرية الحركة بين الدول الأوروبية، والتي يتهمها يمينيون كثيرون بالتسبب في فوضى الحدود وإغراق الدول الأغنى باللاجئين.
حزب الحرية قمعي بامتياز، كأن أصحابه قفزوا عبر آلة الزمن من عصر الظلمات الأوروبي إلى القرن الحادي والعشرين، ففي خطابٍ رسمي، يدعو فيلدرز إلى ملاحقة كل المتشددين المسلمين والمتعاطفين مع “الجهاد” وسجنهم أو طردهم من البلاد. حتى لا نسيء الفهم، ونظن أن المقصودين ربما المتطرّفون من المسلمين، فإنه يجب أن نتذكّر أن هذه العبارات تأتي من شخص يرفض المسجد والقرآن الكريم نفسه. ولا يعتذر فيلدرز عن الإساءة للنبي محمد (ص)، بل يرى أن الرسوم المسيئة يجب أن تكون في كل مكان وأن توزّع للأطفال، بغرض إرسال رسالة تحدٍّ للغضب الإسلامي ولإظهار عدم الاكتراث بأي تهديد.
ليست الأفكار المعادية للإسلام وللمهاجرين في أوروبا جديدة، الجديد، الذي تبرزه ظاهرة فيلدرز، انتقالها من هامش المجتمع إلى دائرة التأثير وصنع القرار
يدقّ هذا كله ناقوس الخطر، ويدعو الجهات ذات الصلة إلى بحث أسباب هذا التمدّد اليميني المتسارع، فحتى عقدين، كان خطر فوز أحزاب، مثل حزب فيلدرز، أو إحرازهم درجات متقدّمة يبدو مستبعداً، لكننا اليوم ننتقل إلى مرحلة النقاش حول ما إذا كان بإمكان الأطراف السياسية الهولندية التوافق على فيلدرز رئيسا للوزراء.
هناك تحليلات كثيرة حول تنامي الظاهرة اليمينية في أوروبا. جديد ما اطلعت عليه بهذا الشأن مقال مميز بعنوان “لماذا يتجه الشباب الأوروبي نحو اليمين المتطرّف؟”، خلص فيه جون هينلي وبجوتر سوير من “الغارديان” البريطانية، بعد إجراء مقابلات مع خبراء ومجموعة من المصوتين، إلى أن ما يدفع الشباب للتصويت لليمينيين وعود هؤلاء الاقتصادية، خصوصا ما يتعلق بإيجاد فرص عمل وتوفير مساكن وتحسين نظام الرعاية الصحية. أي أن ذلك لا يعود للقناعة ببرنامج معاداة الأجانب أو المسلمين، بل الشباب هم، في أكثر الأحيان، الأكثر حماساً لاستقبال اللاجئين.
في عاصمة مزدحمة وغالية مثل أمستردام تكون الوعود بالحصول على شقّة خاصة لشاب ما زال يسكن مع والديه مغرية. مثل هذا الشاب، الذي يحلم بمستقبل أفضل، لا يكترث بالتأكيد، لأن ما تقدمه الأحزاب اليمينية حزمة واحدة تشتمل، من جهة، على وعود اجتماعية، لكنها تشتمل في مقابل ذلك على برنامج عنصري أو معادٍ للمسلمين.
ليست الأفكار المعادية للإسلام وللمهاجرين في أوروبا جديدة، الجديد، الذي تبرزه ظاهرة فيلدرز، انتقالها من هامش المجتمع إلى دائرة التأثير وصنع القرار.