رأي

هندسة جديدة للعلاقة بين مصر والسودان

كتب محمد أبو الفضل في صحيفة العرب.

تخفيف توجسات القوى المدنية من مصر حيال معادلة الحكم هو أحد المحرمات التي اهتزت الفترة الماضية وعلى أساسها يبدو المسار ممهدا أمام القاهرة لفتح خطوط اتصال أكثر سخونة مع الجميع.

يشير التقارب الظاهر بين مصر وقوى سودانية عسكرية وسياسية واجتماعية إلى قدر من التفاؤل بإمكانية تطويره إلى حالة تسهم بدور فعال في وقف إطلاق النار، والحديث عن عملية سياسية منتجة ومكملة لما طرح عبر منبر جدة والهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا (إيغاد).

ويمنح الانفتاح المصري على جهات سودانية والتجاوب معه فرصة لمحو صورة قاتمة حكمت العلاقة بين القاهرة والخرطوم، وبقيت آثارها السلبية مستمرة بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، كأن هناك من كانوا يغذونها ولا يريدون للعلاقة أن تستقيم بين البلدين، وأرخت بظلال سلبية على الكثير من المحطات التي مر بها السودان، وآخرها الحرب التي اندلعت بين الجيش وقوات الدعم السريع.

وجهت انتقادات واتهامات للقاهرة عقب الحرب، وبدا أن هناك من يريد قطع الطريق على أي تدخل لها، بحجة أنها منحازة إلى الجيش، أو أن لها أطماعا تاريخية، أو لا تريد لأي تجربة للتحول الديمقراطي في السودان أن تحيا وتكتمل، وطالت الشكوك الكثير من النواحي التي تتنافى مع أهمية هذا البلد للأمن القومي المصري، وأن الحفاظ على وحدته واستقراره وأمنه مطلب عاجل للقاهرة بالتساوي مع الخرطوم.

بدأت عملية قطع الطريق على أي دور لمصر في السودان منذ سنوات، زادت مع صعود نظام البشير، وعقب سقوطه عزف أتباعه على مزاعم جرى توارثها بشأن حسابات أمنية مغرضة لمصر، تم ترديدها بلا تفكير، ثم تحولت إلى عائق أمام أي مقاربة أو خطوة إيجابية للمشاركة في حل أزمات السودان المتتابعة، وبدلا من أن تصبح القاهرة أقرب صديق للخرطوم تحولت إلى أخطر عدو.

انتبهت مصر إلى هذه الحالة، معتقدة أن النأي عن التدخل في حل مشاكل السودان يحافظ على العلاقات مع شعبه ويجنب الدخول في أزمات ممتدة، لكن تبين أن هذه الرؤية غير صائبة، حيث شنت حملات طالت تشكيكا في جدوى الروابط التاريخية والاجتماعية، وتقزيما لشبكة المصالح المتبادلة التي تعرضت للهدم أحيانا، وظهرت حساسيات لا أحد يريد مواجهتها صراحة حفاظا على ما تبقى من حبال الود، وأملا في أن تتوقف حملات التحريض المتعمدة لإبعاد مصر عن السودان أو العكس.

أثبت الصراع بين الجيش والدعم السريع، الذي ابتعدت مصر عن مكوناته العسكرية الصارخة، عمق الخطورة التي يؤدي إليها استمراره في ظل تدخلات قوى خارجية وأطماعها المتباينة في السيطرة على مناطق حيوية تضر بثوابت مصر في علاقتها مع السودان، في قضايا متشعبة وقواسم مشتركة خلقها نهر النيل والأمن في البحر الأحمر، وعدم ترك الأمور إلى حد يصل بها إلى المزيد من تقسيم شرايين السودان.

وكشفت تصريحات قوى مدنية سودانية مؤخرا، بعضها كانت له تحفظات على أي دور لمصر، عن اتجاه نحو استدعائها للقيام بدور في وقف الحرب، والوساطة بين طرفيها العسكريين المباشرين، قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، استثمارا لما بدا من مشاركة مصرية جيدة، ظهرت من خلال استضافة اجتماعات لقوى سودانية مختلفة في القاهرة، لا تستثني أحدا تقريبا، وفي اجتماعات المنامة بين وفد من الجيش رأسه الفريق شمس الدين كباشي وآخر قاده نائب أول الدعم السريع عبدالرحيم دقلو.

اتسع نطاق المشاركة المصرية أخيرا، وظهرت ملامح لحوارات ومحادثات معلنة وغير معلنة مع قوى عديدة، وحضور اجتماعات إقليمية ودولية خاصة بوقف الحرب وتسوية الأزمة، وأخيرا استقبال المبعوث الأميركي الجديد للسودان في القاهرة، ضمن جولة تشمل الإمارات والسعودية وجيبوتي وإثيوبيا وكينيا، تزامنا مع تحركات قامت بها واشنطن في مجلس الأمن الدولي، وتصورات جديدة بشأن وضع حد لنزاع يمكن أن تتسع رقعته، ما يسبب متاعب لدول عدة في مقدمتها الولايات المتحدة ومصر.

لدى القاهرة فرصة لاستدارة كبيرة في الأزمات التي تسبب لها تحديات إقليمية، مثل السودان، فالحذر الداخلي النابع من حدة الأزمة الاقتصادية والذي كبلها لفترة عن التدخل في بعض الأزمات بدأت تظهر معالم تجاوزه، ومخاوف السودانيين أو شكوكهم في نوايا القاهرة أخذت تتراجع مع استقبال مئات الآلاف منهم على الأراضي المصرية وإجراء حوارات مع نخبهم من مشارب مدنية ومسلحة عدة، كما أن كل المبادرات التي طرحت من دوائر إقليمية لم يحالفها الحظ في وقف الحرب.

مالت قوى سودانية نحو مصر وبدت أكثر اقتناعًا بأهمية أن تتدخل بفاعلية أكبر في حل الأزمة، وهي تعلم أن بعض الأطراف التي تدخلت لها مآرب أخرى في السودان، ويظل موقف مصر أكثر عقلانية في نظر البعض، وهو ما يمكن أن يستثمر لإعادة ترتيب العلاقات مع السودان، بما يبعد عن مصر رواسب الماضي القاتمة، وينهي حقبة طويلة من التعقيدات وظفتها قوى إسلامية لصالح فصم أواصر الانسجام بين الخرطوم والقاهرة.

وأصبحت الفرصة مواتية لوضع هندسة سياسية جديدة بين البلدين، يقع جزء كبير منها على مدى استفادة مصر من اللحظة الراهنة التي تزايدت فيها استعدادات القوى السودانية لتقبل دور كبير لها في حل أزمة بلدها المستعصية، وربما لا تتكرر هذه الفرصة، لأن القابلية السودانية والإقليمية والدولية كبيرة الآن لتدخل القاهرة.

ولن تكون هناك ممانعات مؤثرة من جانب الحركة الإسلامية بعد أن تم دحض الكثير من الشائعات التي روجتها ضد مصر، وصار دور القوى المدنية أكثر تأثيرا ورغبة في مشاركة القاهرة، وتبين أن فكرة دعم مصر للمؤسسة العسكرية تستند فقط على قدرتها في الحفاظ على وحدة الدول وليس اقتناعا بأولويتها في الحكم، وغير قاصرة على السودان، ناهيك عن أن ما كشفته الحرب بين الجيش والدعم السريع وتداعياتها عزز رؤية القاهرة في أهمية وجود جيش قوي وغير عقائدي في البلاد.

تخفيف ما يمكن وصفه بـ“توجسات” القوى المدنية من مصر حيال معادلة الحكم هو أحد المحرمات التي اهتزت الفترة الماضية، وعلى أساسها يبدو المسار ممهدا أمام القاهرة لفتح خطوط اتصال أكثر سخونة مع جميع القوى للحديث عن إجراءات عملية للمرحلة المقبلة، فانتصارات قوات الجيش في أم درمان حافظت على صورته المعنوية، وقوات الدعم السريع متماسكة عسكريا، والقوى المدنية أكثر انخراطا في تفاصيل الأزمة ويمكنها التفاهم فيما بينها والالتفاف حول رؤية للحل الشامل.

بمعنى آخر باتت التوازنات العامة في السودان تسمح بحديث شامل حول وقف الحرب، تلعب فيه مصر دورا رئيسيا، مع تصاعد دعم قوى إقليمية ودولية للحل السياسي، وعدم رفض تحرك القاهرة في سياق معرفتها بتفاصيل ما يجري في السودان، والتوازنات العامة في المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى