هل يكبح اعتراف ترامب بالمجاعة في غزة حل الدولتين

كتب د. جيرار ديب في صحيفة العرب.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية بات يُطرح كضرورة سياسية وأمنية وإنسانية، لا كرمزية عاطفية.
بينما لا تزال غزة تنزف وتترنح تحت وطأة المجاعة والقصف والدمار، تتجه بوصلة الرأي العام الدولي نحو لحظة طال انتظارها: الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين.
خطوة كانت، حتى وقت قريب، أقرب إلى الحلم المؤجل، باتت اليوم مطروحة بجدية غير مسبوقة في أروقة الأمم المتحدة، ضمن ما يُعرف بـ”إعلان نيويورك”، الذي صاغت خطوطه العريضة فرنسا والسعودية، وحظي بدعم لافت من قوى إقليمية ودولية من مختلف الاتجاهات.
ولأول مرة منذ عقود تتلاقى إرادات دبلوماسية متباينة، من كندا إلى قطر، ومن تركيا إلى البرازيل، على موقف مشترك: لا يمكن الاستمرار في تجاهل الحق الفلسطيني، ولا يمكن القبول بأن يكون حل الدولتين مجرد شعار فارغ يُستدعى وقت الحاجة لتبرير خمول المجتمع الدولي.
منذ عقود والمجتمع الدولي يتحدث عن “حلّ الدولتين”، لكنّه لم يقدّم شيئا فعليا يخرجه من ورق البيانات إلى أرض الواقع
الجديد اليوم هو أن الاعتراف بدولة فلسطين بات يُطرح كضرورة سياسية وأمنية وإنسانية، لا كرمزية عاطفية.
وفي هذا السياق لم يكن إعلان رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، عن نية بلاده الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر المقبل، إلا تجسيدا لتحوّل لافت في الرؤية الأوروبية.
أما موقف كندا فقد بدا أكثر جرأة، خاصة حين نقل الرئيس محمود عباس في مكالمة مع رئيس الوزراء الكندي مارك كارني “تثمينه لموقف أوتاوا التاريخي.”
كلمة “تاريخي” هنا ليست مجرد مجاملة دبلوماسية، بل هي توصيف دقيق لتحوّل في الاصطفافات، حيث كانت كندا لعقود محسوبة على معسكر “التوازن المزعوم” في الشرق الأوسط.
لكن ما الذي تغيّر اليوم حتى تجرأ الغرب على الاقتراب من الخط الأحمر الإسرائيلي؟ الجواب ببساطة: غزة. لا المجازر اليومية وحدها هي من غيّرت المزاج الدولي، بل صور الأطفال الهزيلين والنساء المنهارات والبيوت المدمّرة بالكامل، في مشهد تراجيدي لم يعد يُحتمل.
الولايات المتحدة، التي لطالما كانت صمام الأمان لإسرائيل، بدأت تُظهر ارتباكا ملحوظا. تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أعرب فجأة عن “تأثره العميق” بصور المجاعة في غزة، ثم إعلانه عن مراكز غذائية أميركية داخل القطاع، تشي بتبدّل في اللهجة، حتى لو كان الغرض منها “فرملة” المدّ المتصاعد نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية. فواشنطن، كما هو معروف، لا تتحرك تحت ضغط أخلاقي، بل حين تخشى فقدان قدرتها على التحكم في دفة المبادرة.
منذ عقود والمجتمع الدولي يتحدث عن “حلّ الدولتين”، لكنّه لم يقدّم شيئا فعليا يخرجه من ورق البيانات إلى أرض الواقع.
المشكلة لم تكن فقط في الرفض الإسرائيلي المتكرر، بل أيضا في التواطؤ الضمني لقوى كبرى، كانت ترى في إبقاء الوضع على ما هو عليه أفضل من الدخول في حقل ألغام سياسي. لكنّ مأساة غزة، وتحولات الإقليم، والأصوات التي بدأت ترتفع في أوروبا وكندا وحتى أميركا اللاتينية، فرضت على الجميع مواجهة السؤال المؤجل: إلى متى يمكن القبول بأن يبقى الفلسطيني شعبا بلا دولة، وأسيرا لمزاج الاحتلال؟ لا شكّ أن مشروع الاعتراف بالدولة الفلسطينية سيواجه مقاومة، ليس فقط من تل أبيب، بل من واشنطن نفسها، التي تحاول الآن تطويق “إعلان نيويورك” عبر المبادرات الإنسانية الشكلية. لكنّ المهم أن هذه اللحظة، بكل ما فيها من زخم وغضب وأمل، تُعيد تموضع القضية الفلسطينية في مركز النقاش العالمي، لا كملف إنساني فقط، بل كقضية تحرر وكرامة وحق تاريخي غير قابل للتقادم.
المفارقة أن إسرائيل، في سعيها لإخضاع غزة، دفعت المجتمع الدولي نحو الاقتناع بأن لا استقرار في المنطقة دون إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة. وبينما كانت تضرب القطاع بلا هوادة، كانت تحفر لنفسها خندقا سياسيا قد تجد صعوبة في الخروج منه قريبًا.
صحيح أن الطريق ما زال طويلا، وأن قوى كبرى قد تتراجع في اللحظة الأخيرة، لكن ما يصعب إنكاره اليوم هو أن فلسطين لم تعد وحدها. الاعتراف الدولي بدولتها بات ممكنا، لا لأن العالم اكتشف فجأة عدالتها، بل لأنه لم يعد قادرا على تجاهل المأساة. وهي لحظة قد لا تتكرر قريبا.