رأي

هل يغيّر نداء أوجلان المعادلة الكردية في سورية؟

كتب بشار نرش في صحيفة العربي الجديد.

في نداء تاريخي يُمثّل تحوّلاً كبيراً، سواء في الاستراتيجية السياسية والعسكرية له ولحزبه، أو في سياق العلاقات الكردية التركية، التي أطّرتها سنوات من الحرب والسلام، أثارت دعوة زعيم حزب العمّال الكردستاني عبد الله أوجلان، إلى إلقاء الحزب سلاحه، وحلّ نفسه، والانخراط في العمل السياسي السلمي، والاندماج مع الدولة والمجتمع، موجةً واسعةً من الجدل بشأن مستقبل الحزب العابر للحدود، وسط تساؤلات عن مدى انعكاسات ذلك على مستوى المنطقة والفصائل الكردية فيها، لا سيّما قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المسيطرة في شمال شرقي سورية، التي تعدّ امتداداً فكرياً وعسكرياً لحزب العمّال الكردستاني.

في هذا السياق، يرى باحثون ومختصّون عديدون أن نداء أوجلان يكتسب أهميةً خاصّة، ليس من أنه إعلان تحوّل في استراتيجية “العمّال الكردستاني” فقط، بل أيضاً لارتباطه الوثيق بالتحوّلات الجيوسياسية، التي تشهدها المنطقة، فاللحظة التي جاء فيها هذا النداء تتّسم بتعقيداتها العسكرية والسياسية، ما يجعل من الضروري تحليل تداعياته المحتملة، لا سيّما على الوضع في سورية، إذ تبرز “قسد” فاعلاً أساسيّاً ومهمّاً متأثّراً بهذا التحوّل.

سورياً، تعكس تصريحات قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، التي أكّد فيها أن إعلان أوجلان يتعلّق بحزب العمّال الكردستاني فقط، ولا علاقة له بقوات “قسد” في سورية، سعياً واضحاً إلى فصل المسار السوري عن ذلك التركي، وتأكيد البُعد الوطني المحلّي لقوات “قسد”، في محاولة منه للمناورة في سردية ارتباط هذه القوات بحزب العمّال الكردستاني العابر للحدود، والحفاظ على التمايز بين “قسد” والحزب، سيّما في ظلّ الضغوط المتزايدة التي تتعرّض لها “قسد” من عدّة أطراف بعد سقوط نظام بشّار الأسد في سورية.

غير أنّ هذا التمايز الذي يسعى عبدي إلى ترسيخه، يواجه تحدّيات موضوعية، تتمثّل في طبيعة العلاقة العضوية بين “قسد” و”العمّال”، سواء على مستوى القيادات أو الأيديولوجيا أو البنية التنظيمية، ممّا يجعل من الصعب تحقيق قطيعةٍ كاملةٍ بين المسارين، وهو ما قد يتسبّب بأزمة داخلية بين الجناح المحلّي من “قسد”، الراغب بفكّ العلاقة مع جبال قنديل، والجناح الآخر الراغب في جعل القضية الكردية مجرّد رافعةٍ لمشروع “العمّال الكردستاني”، ويرى في الكفاح المسلّح الخيارَ الوحيدَ لتحقيق الحقوق الكردية.

رفض الدعوة لترك السلاح يعني استمرار النزاع والحرب، وبقاء “قسد” في مرمى الاستهدافين، السوري والتركي

لذلك، لا يمكن احتواء ارتدادات نداء أوجلان بمجرّد النأي بالنفس، وهو ما يدركه عبدي تماماً، الذي يرى نفسه أمام مفترق طرق، فإمّا رفض الدعوة لترك السلاح، وبالتالي متابعة النهج العسكري الذي اتبعه سابقاً، وهذا يعني استمرار النزاع والحرب، وبقاء “قسد” في مرمى الاستهدافين، السوري والتركي، في آن، الأمر الذي سيزيد من عزلة “قسد” الجماهيرية داخل الأوساط الكردية، لا سيّما أنّ هناك توجّها كرديا عاما في سورية والعراق وتركيا يدعم السلام، ويرفض استمرار النزاع والحرب، وكذلك سيزيد من عزلتها الإقليمية والدولية، وخصوصاً في ظلّ معلوماتٍ تفيد بأن الولايات المتحدة بقيادة ترامب تدعم مبادرة أوجلان بقوة، وفي حال فشلها، قد تمنح أنقرة الضوء الأخضر لتصفية “قسد” عسكرياً، وإنشاء منطقة آمنة على طول حدودها داخل سورية. أو الانخراط في حوار سياسي أوسع، قد يشمل الحكومة السورية واللاعبين الدوليين والإقليميين، للمضي قدماً في مسار المفاوضات، والقبول بنمط جديد للإدارة المحلّية يراعي حساسيات الواقع السوري ومعطياته، ويمهّد الطريق لخروج عناصر حزب العمّال من سورية، وتسوية أوضاع المحلّيين، وهو ما يُمثّل، حسب معظم المحلّلين العرب والكرد والأتراك، المَخرَج الأمثل لمختلف الأطراف، لأنه يجنّب المنطقة سيناريوهات أسوأَ، في رأسها المواجهة العسكرية، وما قد يتلوها من ارتدادات أمنية، سياسية، اجتماعية، إنسانية، تبدو الأطراف المحلّية بغنىً عنها خلال الظروف الحالية.

الطريق نحو تسوية مستدامة يتطلّب خطوات تدريجية لبناء الثقة

وعليه، طبيعة وشكل استجابة وتفاعل “قسد” مع دعوات أوجلان ستحدّدان طبيعة وردّة فعل دمشق من جهة، وأنقرة من جهة أخرى، إذ سيشكّل رفض دعوة إلى إلقاء السلاح شرعيةً قويةً لتركيا والحكومة السورية الجديدة باستهداف “قسد”، في حين أنّ الاستجابة الإيجابية قد تؤدّي إلى تهدئة الهواجس التركية والسورية، وبالتالي تقليل نسب التهديدات العسكرية المبنية على ارتباط “قسد” بحزب العمّال الكردستاني وتهديده للأمن القومي التركي من جهة، ولوحدة التراب السوري وإغلاق الباب أمام الطروحات الانفصالية من جهة أخرى.

يمكن القول إنّ نداء أوجلان يشكّل مساراً جديداً لأكراد سورية، يُهيّئ لهم مناخاتٍ سياسيةً جديدةً للدخول في حوارات مع الإدارة السورية بمعطياتٍ جديدة، للوصول إلى تفاهمات بعيداً من لغة الحرب والتدخّلات الخارجية. لذا، على قياداتهم، إذا ما أرادوا إيجاد حلّ سياسي سلمي للقضية الكردية، أن يجردوا حساباتهم بدقّةٍ قبل فوات الأوان، فالطريق نحو تسوية مستدامة يتطلّب خطوات تدريجية لبناء الثقة، خاصةً في ظلّ تعقيدات المشهد السياسي الإقليمي والدولي، وحتى ذلك الحين، سيظّل إعلان أوجلان محطّةً مهمةً، لكنّها ليست حاسمةً في تحديد مصير العلاقات الكردية – السورية أو الكردية – التركية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى