هل يستطيع ستارمر إنقاذ بريطانيا؟
لماذا قد لا يؤدي انتصار حزب العمال الكاسح إلى منع تدهور البلاد؟
كتب فينتان أوتول. في “اندبندنت عربية”:
مهما بدت نتائج الانتخابات ساحقة لصالح حزب العمال، إلا أنها تأتي مصحوبة بتحذير كبير جداً. فالنسبة التي حصل عليها من إجمالي الأصوات، والبالغة 34 في المئة، منخفضة للغاية ولم تشهد سوى زيادة متواضعة تقل عن 2 في المئة منذ أدائها الضعيف في عام 2019 كما أن الغضب الشعبي الذي أطاح بالمحافظين لا يقابله زيادة في الثقة بقدرة ستارمر على إنقاذ البلاد.
على رغم أن استطلاعات الرأي كانت تتوقع ذلك لعدة أشهر، فإن نتيجة الانتخابات العامة في المملكة المتحدة في 4 يوليو (تموز) كانت مذهلة بكل الأحوال. لقد كان هذا أسوأ أداء في تاريخ حزب المحافظين الممتد على مدار 190 عاماً. في الواقع، خسر الحزب ما يقرب من نصف حصته من الأصوات و250 مقعداً برلمانياً. كما أن رئيسة وزراء سابقة (ليز تراس)، وتسعة وزراء آخرون (بمن في ذلك وزراء الدفاع والتعليم والعدل)، وغيرهم من الشخصيات المحافظة البارزة فشلوا في إعادة انتخابهم. وهذه الموجة من الغضب العارم لم تجرف معها رئيس الوزراء المنتهية ولايته ريشي سوناك فحسب، بل أيضاً السنوات الـ 14 الأخيرة من حكم حزب المحافظين، والتي انهارت بصوت مدو.
نادراً ما تشهد أي ديمقراطية هذا الانتقال السريع للحزب الحاكم من النصر (فاز بوريس جونسون بغالبية كبيرة في عام 2019) إلى الكارثة. والأسباب واضحة: الخروج الفاشل من الاتحاد الأوروبي، والتدهور الاجتماعي والاقتصادي الحاد، والانهيار المؤسسي، والتغيير المتكرر والسريع للقادة غير الفعالين والكارثيين في بعض الأحيان، والسلوك الغريب والفوضوي لجونسون، وتجربة تراس المشؤومة والقصيرة الأمد مع النيوليبرالية الاقتصادية المتطرفة. إن الشعور السائد على مدار العقد ونصف العقد الماضيين بأن المملكة المتحدة أصبحت في الرمق الأخير، تَجسد في تصاعد النزعة القومية الإنجليزية والنزعة الانفصالية في اسكتلندا وويلز وإيرلندا، ما هدد بطرق مختلفة بتفكيك المملكة. وقد أوضح الناخبون بشكل لا لبس فيه على من يلقون اللوم في هذه المشكلات.
في الجانب الآخر من الصورة ذاتها، يجد زعيم حزب العمال كير ستارمر الآن أن حزبه حصل على 411 مقعداً، وهو إجمالي يعكس تقريباً انتصار توني بلير التاريخي عام 1997.. منذ أن تولى ستارمر الزعامة قبل خمس سنوات، لم يتعاف حزب العمال من الوضع المزري الذي كان فيه فحسب، بل ارتقى أيضاً إلى حالة النعيم والرفعة. فاستعاد السيطرة على معظم مناطق “الجدار الأحمر” في دوائر الطبقة العاملة التي فقدها الحزب في عام 2019 أمام سحر جونسون الغريب ووعوده “بإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”. كذلك، فرض حزب العمال هيمنته مجدداً في اسكتلندا، التي بدت على مدار هذا القرن وكأنها أصبحت معقلاً يسيطر عليه الحزب الوطني الاسكتلندي المؤيد للاستقلال. علاوة على ذلك، فاز الحزب بـ 27 مقعداً من أصل 32 في ويلز.
بالتالي، فإن حكومة حزب العمال الجديدة تستطيع أن تقدم نفسها على أنها حكومة “بريطانية” حقيقية على نحو عجزت عن فعله أي من الحكومات السابقة منذ حكومة بلير. وعلى المدى القصير، لا شك في أن خطر تفكك البلاد قد تراجَع. لقد بدت المملكة المتحدة في عهد جونسون، الذي بدأ سلسلة من الحكومات المحافظة الفوضوية، وكأنها متأثرة بنفس السياسة الرجعية الأدائية القائمة على الشخصية [السياسة الأدائية هي السلوكيات التي تتضمن التباهي والإدلاء بتصريحات أو اتخاذ إجراءات جريئة للحصول على تأييد الجمهور. والسياسة القائمة على الشخصية هي تلك التي تتأثر بسمات القائد الشخصية] التي شهدتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب. والآن، فإن صعود ستارمر، الزعيم البراغماتي الذي يفتقر إلى الكاريزما، يكسر نمط الميل نحو اليمين المتطرف الذي شهدته عديد من الديمقراطيات الأوروبية، من إيطاليا وفرنسا إلى هولندا والسويد. إنه يحيي الأمل في أن تتمكن السياسة المعتدلة الوسطية من الصمود. وسوف يتردد صدى الشعور بالارتياح خارج حدود المملكة المتحدة.
ومع ذلك، مهما بدت هذه النتائج ساحقة، إلا أنها تأتي مصحوبة بتحذير كبير جداً. فالنسبة التي حصل عليها حزب العمال من إجمالي الأصوات، والبالغة 34 في المئة، منخفضة للغاية. ولم تشهد سوى زيادة متواضعة تقل عن 2 في المئة منذ أدائها الضعيف في عام 2019. والجدير بالذكر أن الغضب الشعبي الذي أطاح بالمحافظين في السلطة لا تقابله زيادة في الثقة بقدرة ستارمر على إنقاذ البلاد. في الواقع، يدين ستارمر بالغالبية الضخمة التي حصل عليها إلى تقلبات قانون الغالبية البسيطة في النظام الانتخابي first-past-the-post [نظام FPTP يفوز فيه المرشح ضمن الدائرة الانتخابية الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات، ولا يحتاج بالضرورة إلى غالبية تفوق الـ 50 في المئة للفوز]، الذي قد يؤدي إلى تحولات كبيرة في أعداد المقاعد على المستوى الوطني من خلال تغييرات صغيرة نسبياً في الدوائر الانتخابية الفردية. وعلى نحو مماثل، يشير التغير الهائل في الحظوظ النسبية لحزب المحافظين وحزب العمال في غضون خمس سنوات فقط إلى استمرار التقلبات الشديدة في المملكة المتحدة.
وعلى رغم أن ستارمر يمسك بزمام السلطة بقوة، فإن الطريق أمامه لا يزال وعراً. فالاضطرابات الأعمق التي أدت ببطء، ولكن بلا هوادة إلى تقويض الأسس الاجتماعية والسياسية للبلاد سوف تستمر في زعزعة الاستقرار، إلا أن تأثيراتها قد لا تكون مرئية على الفور. وعلى رغم أن حملة ستارمر نادراً ما ذكرت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكست”، فإن هذه الكارثة هي حقيقة مستمرة من شأنها أن تقيد بشدة اندفاعة ستارمر المحمومة لتحقيق النمو الاقتصادي، ومن دونها سوف يتحول وعده بالتجديد إلى وعد فارغ بشكل سريع. إضافة إلى ذلك، تشهد مستويات المعيشة انحداراً فظيعاً، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية واتساع الفجوة بين جنوب إنجلترا وبقية المملكة المتحدة. ومن دون ضخ جديد لمبالغ ضخمة من الأموال، فإن الانهيار المحتمل للخدمات العامة والصحية يهدد بتدمير بعض المصادر القليلة المتبقية للهوية البريطانية الجمعية.
نسبة إجمالي الأصوات التي حصل عليها حزب العمال كانت منخفضة للغاية
لا يمكن معالجة أي من هذه التحديات من دون إصلاح جذري للنظام الأساسي للحكم. طوال سنوات، أظهرت لندن أنها غير قادرة على حل المشكلات الرئيسة أو منح جميع المواطنين الثقة بأن المؤسسات المركزية في السلطة تخدم مصالحهم. والشعار الذي فاز في استفتاء “بريكست” لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي في عام 2016 (“استعادة زمام الأمور”) كان فعالاً للغاية لأنه سلط الضوء على فقدان الثقة فعلياً في الوعد بالديمقراطية الذي يشير إلى أن الشعب هو من يدير زمام الأمور. ومن المؤكد أن المسار المتقلب الذي سلكته السياسة البريطانية منذ ذلك الحين لم يفعل شيئاً لاستعادة تلك الثقة.
واستطراداً، لا يقدم ستارمر نفسه على أنه القائد الديناميكي المتمتع بشخصية كاريزمية. فسلوكه العام يفتقر إلى المرونة وهادئ بشكل لافت. وعلى رغم شعار “التغيير” الذي روج له، فإن العروض التي قدمها حزبه للناخبين اتسمت بالحذر الشديد وعدم الرغبة في المخاطرة. علاوة على ذلك، تبنى حزب العمال القيود المالية ذاتها التي وضعها المحافظون، في حين تجنب في الأغلب الزيادات الضريبية من أجل توليد الإيرادات اللازمة لدعم الخدمات العامة ومعالجة نقص الاستثمار. ونظراً للضغوط الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة التي تواجه البلاد، قد تميل القيادة الجديدة إلى إعطاء الأولوية لإدارة الأزمات على حساب السعي إلى إصلاحات أكثر جرأة.
لكن مثل هذا النهج الحذر لن يكون خالياً حقاً من الأخطار. بل إنه في الواقع سيخاطر بتبديد فرصة الاستفادة من غالبية برلمانية ذات أهمية تاريخية. فإما أن تتمكن الإدارة المقبلة من اغتنام الفرصة لإصلاح النظام أخيراً ومعالجة القضايا الدستورية والديمقراطية الأساسية التي قد تعتمد عليها قدرة المملكة المتحدة على البقاء في الأمد البعيد، أو يمكنها أن تختار المضي قدماً على أمل أن تتحسن الأمور من تلقاء نفسها. بالنسبة إلى هذا النظام السياسي الشديد الانقسام، قد تكون هذه هي المرة الأخيرة التي يتاح فيها مثل هذا الخيار.
بالعودة إلى انهيار ألمانيا الشرقية
منذ بداية الحملة، كان الشعور بالتشاؤم يخيم على فكرة تولي المحافظين القيادة في المملكة المتحدة. في 23 مايو (أيار)، أي بعد يوم من إعلان ريشي سوناك إجراء انتخابات مبكرة بشكل غير متوقع، زار منطقة تيتانيك في بلفاست، وهي منطقة راقية في طور التطوير والإنماء تقع على الواجهة البحرية وقد سُميت على اسم السفينة المنكوبة التي بنيت في أحواض قريبة مخصصة لبناء السفن. وحتماً كما هو متوقع، سأل أحد المراسلين رئيس الوزراء سوناك عما إذا كان هو قبطان سفينة غارقة. ففي نهاية المطاف، كان من الصعب عدم التنبؤ بالانهيار الدراماتيكي للمحافظين، الذين عادوا إلى السلطة في عهد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون في عام 2010 ثم قدموا سلسلة سريعة وفوضوية من القادة الفاشلين منذ عام 2016: تيريزا ماي، وجونسون، وتراس، وأخيراً سوناك. في كتاب حديث بعنوان “تأثير المحافظين من 2010 إلى 2024″، خلص المؤرخان السياسيان أنتوني سيلدون وتوم إغيرتون إلى أنه “بشكل عام، من الصعب العثور على فترة أخرى في تاريخ المحافظين شهدت إنجازات قليلة إلى هذا الحد، أو تركت البلاد في حالة أسوأ بحلول نهايتها”.
ومع ذلك، أثار تشبيه “تيتانيك” سؤالاً أقل وضوحاً، ولكن أكثر عمقاً. ماذا لو كانت السفينة الغارقة هي المملكة المتحدة نفسها [لا حزب المحافظين]؟ لا خلاف على أن البلاد في ورطة شديدة. كان نمو الأجور بين عامي 2010 و2020 هو الأدنى خلال أي فترة عشر سنوات متتالية في زمن السلم منذ الحروب النابليونية. وكان معدل نمو الإنتاجية السنوي في البلاد منذ عام 2007 ضئيلاً، إذ بلغت نسبته 0.4 في المئة، وهو أدنى مستوى له خلال فترة مماثلة منذ عام 1826. وربما يكون من المناسب أن أحداث أحد أشهر النتاجات الثقافية للبلاد، مسلسل الخيال التاريخي “بريدجرتون” على شبكة “نتفليكس”، تدور في أوائل القرن التاسع عشر، وهي المرة الأخيرة التي كان فيها أداء الاقتصاد البريطاني بطيئاً إلى هذا الحد.
على مدى السنوات الـ 16 الماضية، نما نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة لا تتخطى 4.3 في المئة، مقارنة بنسبة 46 في المئة في السنوات الـ 16 التي سبقتها. علاوة على ذلك، كان نمو الناتج المحلي الإجمالي على مدى السنوات القليلة الماضية مدفوعاً بشكل شبه كامل بالزيادات في الحجم الإجمالي للسكان، أو بعبارة أخرى، بالهجرة التي يقول كلا الحزبين الرئيسيين إنهما يريدان الحد منها بشدة. واضطرت الحكومات المحافظة، التي تكره الضرائب من الناحية النظرية، إلى زيادة الضرائب الإجمالية إلى مستوى لم نشهد له مثيل منذ عام 1950، عندما كانت المملكة المتحدة لا تزال تتعافى من الحرب العالمية الثانية. وقد انخفض متوسط الأجر الحقيقي السنوي بنحو 14 ألف دولار عن المستوى الذي كان عليه قبل الأزمة المالية في عام 2008. ولن تختفي هذه الاتجاهات الاقتصادية ببساطة مع تغيير الحكومة.
تشهد مستويات المعيشة في أجزاء كثيرة من البلاد تدهوراً شديداً
واستكمالاً، فإن مؤشرات الرفاه الاجتماعي محبِطة بالقدر نفسه. فهيئة الخدمات الصحية، التي كانت تُعتبر بشكل مبرر مصدر فخر بريطاني منذ إنشائها في عام 1948، تمر بأزمة. في يونيو (حزيران)، وصف “معهد الحكومة”Institute for Government (IfG) [الذي يهدف إلى تحسين فعالية الحكومة من خلال البحث والتحليل] غير الحزبي حالة الهيئة حالياً بأنها “مزرية” ووجد أن “أداء المستشفيات هو الأسوأ منذ إنشاء الهيئة”. في الحقيقة، زاد عدد الأطفال البريطانيين الذين يعيشون في الفقر إلى 750 ألف طفل منذ وصول المحافظين إلى السلطة في عام 2010، ويعاني 4.3 مليون طفل من الجوع. كما أفلست مجالس محلية عدة، وهو ما أدى إلى تخفيضات كبيرة في الخدمات الأساسية مثل جمع النفايات والرعاية الاجتماعية والمكتبات. في عام 2022، وجدت لجنة مستقبل المملكة المتحدة، وهي هيئة مستقلة بقيادة رئيس الوزراء العمالي السابق غوردون براون، أنه بناءً على مقياس بسيط لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، فإن “نصف السكان البريطانيين”، أي أكثر من 30 مليون شخص، “يعيشون في مناطق لا تقل فقراً عن الأجزاء الأكثر حرماناً في ألمانيا الشرقية السابقة، وأفقر من أجزاء من وسط أوروبا وشرقها، ومن ولايتي ميسيسيبي وويست فرجينيا في الولايات المتحدة”.
ويسود شعور بتدهور الأوضاع في جميع أنحاء البلاد، يتجلى في الأنهار والشواطئ الملوثة بمياه الصرف الصحي. في مارس (آذار)، تلقى المشاركون في أحد الأنشطة التقليدية العريقة في إنجلترا، وهو سباق القوارب السنوي بين أكسفورد وكامبريدج على نهر التايمز، تحذيرات للمرة الأولى بأن تركيز بكتيريا “الإشريكية القولونية” E. coli في الماء يستدعي تغطية الجروح والخدوش بضمادات مقاومة للماء والحرص على عدم ابتلاع أي رذاذ مما كان يسمى بنهر “تايمز الحلو”. كما وجدت وكالة البيئة البريطانية أن الشركات المسؤولة عن إمدادات المياه الوطنية [التي خصخصتها حكومة المحافظين برئاسة مارغريت تاتشر في أواخر الثمانينيات] ألقت في عام 2023 كميات أكبر من أي وقت مضى من النفايات البشرية الخام غير المعالجة في الأنهار والبحار في البلاد.
والواقع أن رد الفعل الانتخابي العنيف ضد المحافظين في عديد من معاقلهم الريفية كانت مدفوعة جزئياً بشعور ساد حتى بين الناخبين المحافظين التقليديين بأن رؤية الشاعر ويليام بليك المثالية لـ “أرض إنجلترا الخضراء الجميلة” قد شابتها الهزيمة. وبالنسبة إلى كثير من هؤلاء الناخبين، تتفاقم هذه المخاوف بسبب إدراكهم أنه كان من المفترض أن يدخلوا في نهاية المطاف عصراً من التقدم والتفاؤل. قبل خمس سنوات فحسب، في أول خطاب له في مجلس العموم بعد وصوله إلى السلطة بصفته رئيساً للوزراء، أصر جونسون على أن سنوات “الانحدار المنظم” قد انتهت وأشاد “ببداية عصر ذهبي جديد”.
وبطبيعة الحال، كان من المتوقع أن يكون خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي هو محور هذا التحول. وكانت الرواية التي نسجها جونسون وحلفاؤه هي أن الديناميكية [أو الحيوية] الطبيعية للبلاد كبَتَها البيروقراطيون في بروكسل لمدة نصف قرن، وأن المملكة المتحدة سوف تزدهر إذا تحررت من هذه الأعباء. والحقيقة القاسية هي أن جل ما أظهره خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو أن المملكة المتحدة هي وحدها المسؤولة عن التحديات التي تواجهها. وقد تفاقمت هذه التحديات المحلية بسبب حماقة إقامة حواجز جديدة بين المصدرين البريطانيين وأسواقهم الرئيسة في أوروبا.
تجنب ذكره
كان أحد أبرز الجوانب في حملة ستارمر وحزب العمال هذا الربيع هو الغياب التام لموضوع “بريكست” في النقاشات الحزبية. ويبدو أن هذا الصمت كان حكيماً من الناحية الانتخابية البحتة، إذ تشير استطلاعات الرأي الآن إلى أن 13 في المئة فحسب من الناخبين يعتبرون العلاقات مع الاتحاد الأوروبي واحدة من أهم القضايا التي تواجه البلاد. في سياق متصل، أشار أناند مينون، مدير مركز بحوث “المملكة المتحدة في أوروبا المتغيرة”، إلى أنه خلال الحملة الانتخابية “إذا نظمتَ جلسات نقاش جماعية وذكرت ’بريكست’، فإن أكبر رد فعل تحصل عليه من الناخبين هو التثاؤب وإشاحة الوجه بامتعاض”. ومع ذلك فمن اللافت للنظر أن المعارضة اختارت الامتناع عن مهاجمة الحزب الحاكم بسبب فشله السياسي الأعظم، وأن الناخبين أبدوا لامبالاة وانزعاجاً إزاء التغيير السياسي الأكثر أهمية الذي شهدته بلادهم في نصف القرن الماضي.
في استفتاء “بريكست” عام 2016، نجح جونسون وزملاؤه الداعمون له في إقناع غالبية صغيرة من الناخبين بأن الانفصال عن بروكسل من شأنه أن يعيد “بريطانيا العالمية” إلى مكانها الطبيعي على قمة الازدهار والإنجازات. والواقع أن هذه الرؤية لم توسع الآفاق البريطانية، بل ضيقتها. لقد كانت تتغذى على مشاعر القومية الإنجليزية المتجددة، ولكن غير المحددة بوضوح. ولم تحظ هذه الفكرة بقبول كبير في لندن المتعددة الثقافات، أو في اسكتلندا، أو في إيرلندا الشمالية، التي صوتت جميعها بكثافة لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي، مثلما فعلت ويلز الناطقة باللغة الويلزية. في المقابل، اقتنع عدد كاف من الناخبين الإنجليز باقتراح جونسون ومنحوه غالبية برلمانية هائلة في انتخابات ديسمبر (كانون الأول) 2019، قبل سبعة أسابيع فحسب من إبرام صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
من الصعب التفكير في مشروع سياسي ناجح تلاشى بريقه بنفس السرعة التي تلاشى بها بريق بريكست. في يونيو (حزيران)، في تقرير بعنوان “العيش في حياة بطيئة الإيقاع”، وجدت مؤسسة “ريزوليوشن فاوندايشن” Resolution Foundation (RF) [التي تعنى دراساتها بتحسين مستوى معيشة الأسر ذات الدخلين المنخفض والمتوسط] غير الحزبية أنه “منذ عام 2019، تراجع الأداء النسبي لبريطانيا في صادرات السلع”، مشيرة إلى أن تلك الصادرات نمت بنسبة 1.1 في المئة فقط سنوياً، أي ما يمثل خُمس متوسط نسبة صادرات السلع في الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. والأسباب وراء هذا النوع من الانهيار ليست غامضة: فاختيار مغادرة أكبر سوق موحدة في العالم له عواقب. وكما يشرح التقرير الأمور من الناحية المالية بطريقة مبسطة، فلو حافظت المملكة المتحدة على حصتها السوقية قبل خروجها من الاتحاد الأوروبي، لنمت صادراتها بمقدار 64 مليار دولار بدلاً من الانكماش بمقدار 4 مليارات دولار بين عامي 2019 و2022.
في الواقع، يبقى الاقتصاد البريطاني واقفاً على قدميه ومحافظاً على استقراره من خلال تصدير الخدمات المالية والقانونية والفنية والإعلانية بشكل متزايد، ومعظمها مدفوع من قبل الشركات الأميركية التي تستعين بمصادر خارجية للعمل مع الشركات البريطانية، وبخاصة شركات الأسهم الخاصة. وهذا أمر مفيد للغاية بالنسبة إلى المصرفيين، والمحامين، ومديري الإعلانات التنفيذيين، والمستشارين الإداريين، ولكنه ليس مفيداً جداً للمزارعين، وعمال التصنيع، والمستهلكين العاديين. إن عدد الخاسرين أكبر بكثير من عدد المستفيدين: في مارس، وجد مكتب مسؤولية الموازنة أن توقعاته بأن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى انخفاض طويل الأمد في الإنتاجية بنسبة 4 في المئة قد تحققت، وهذا أحد العوامل العديدة المساهمة في أشد انخفاض في مستويات المعيشة منذ الخمسينيات.
وفي خضم هذه التأثيرات الكارثية، يبدو أن قِلة من أفراد الطبقة السياسية البريطانية على استعداد لقول “الكلمة التي تبدأ بحرف الباء” [أي بريكست]. ونظراً لأن 18 في المئة فحسب من الذين صوتوا لمصلحة المغادرة في عام 2016 يعتقدون الآن أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يسير على ما يرام، رفض سوناك أن يذكر “بريكست” خلال حملته الانتخابية، على رغم أنه من أشد المؤيدين له. ولكن لنتكلم هنا عن نايجل فاراج، الناشط المخضرم المناهض للاتحاد الأوروبي والهجرة، الذي يقود الآن حزب الإصلاح “ريفورم” اليميني المتطرف. إذا كان بوسعنا أن نقول بشكل معقول أن فاراج هو مؤسس بريكست و”أبوه”، يبدو الآن أن أكثر ما يستطيع فعله هو أن يعرب عن خيبة أمله لأن ابنه [أي بريكست] لم يرق إلى مستوى التوقعات، وأن يقدم نصائح عامة حول التحسينات اللازمة.
وربما يكون صمت ستارمر وحزب العمال أكثر دلالة بكثير. في الأسابيع التي سبقت الانتخابات، لم ينطق ستارمر بكلمة واحدة تقريباً عن أوروبا؛ وباعتباره رئيس الوزراء الآن، فهو قد يميل إلى تجاهل “بريكست” نفسه، لا بل أيضاً كل المسائل العالقة المصاحبة له والمرتبطة بالهوية البريطانية. وربما يكون هذا جزئياً بدافع الضرورة العملية [الحاجة إلى اتخاذ إجراءات فورية]. فجميع الخدمات العامة في البلاد تقريباً، من الصحة والرعاية الاجتماعية إلى الشرطة والسجون والمياه والصرف الصحي والمدارس والمكتبات وحتى التغذية الأساسية لشرائح كبيرة من السكان، تمر في أزمة. وتحتاج البلاد بشكل عاجل إلى كميات هائلة من الاستثمارات العامة. لكن حزب العمال قبِل القيود المالية التي ورثها من المحافظين، فالتزم في إبقاء نسبة الاقتراض الحكومي أقل من 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، والاستمرار في خفض الدين الحكومي الإجمالي، فضلاً عن أنه وعد بتجنب زيادة الضرائب على “الطبقة العاملة”. وسوف يكون التوفيق بين هذه الأهداف صعباً للغاية إلى درجة قد تجعل ستارمر ينظر إلى الإصلاحات السياسية الواسعة النطاق باعتبارها كماليات لا يستطيع تحمل تكاليفها.
إمبراطورية ضعيفة
سيواجه ستارمر قريباً الحقيقة التي لا مفر منها وهي أنه لا يستطيع معالجة الفشل الاقتصادي في البلاد من دون معالجة المشكلات العميقة التي تواجهها المملكة المتحدة نفسها. أولاً، سوف يحتاج حزب العمال إلى النمو لتمويل التحسينات العاجلة في الخدمات العامة التي يتعين عليه تقديمها إلى جمهوره الانتخابي المتزايد حديثاً. ومن عجيب المفارقات أن المملكة المتحدة أصبحت أكثر اعتماداً على الأسواق الأوروبية منذ عام 2019 بسبب تقلص تجارتها مع بقية العالم. والحل واضح: يتعين على الحكومة أن تصلح على الأقل بعض الضرر الذي ألحقته بتجارتها مع الاتحاد الأوروبي. وقد ألمح ستارمر إلى ميل عام نحو هذا الاتجاه، لكنه استبعد التحركات الوحيدة التي من شأنها أن تحدث فرقاً فعلياً، مثل السعي إلى الانضمام مرة أخرى إلى السوق الموحدة في الاتحاد الأوروبي أو اتحاده الجمركي.
يجب أن يتغير شيء ما، وعندما يحدث ذلك، فإن جميع القضايا المهمة التي أثارها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على غرار السيادة ودور المملكة المتحدة في مرحلة ما بعد الإمبراطورية في العالم وطبيعة الديمقراطية التي عفا عليها الزمن في البلاد والتوترات بين دولها، سوف تُطرح مجدداً. لذلك، من المنطقي أن يتعامل ستارمر مع هذه القضايا الوجودية المهمة بينما لا تزال حكومته جديدة، وبينما يتطلع الجمهور البريطاني بشكل واضح إلى بداية جديدة.
السبب الثاني الذي يجعل ستارمر غير قادر على تجاهل الحالة الخطيرة التي تعيشها المملكة المتحدة هو العلاقة القوية بين القوة والازدهار. فأجزاء البلاد ذات النفوذ السياسي الأقل، على وجه التحديد إنجلترا واسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية، هي أيضا الأكثر فقراً. وقد تجسدت مشاعر الاستياء الوطني والإقليمي في أشكال مختلفة من الحركات الانفصالية مثل حركات الاستقلال في ما يسمى الأطراف السلتية و”الاستقلال” عن الاتحاد الأوروبي في إنجلترا، وفي الواقع، تنبع هذه المشاعر من التفاوتات الجغرافية الصارخة في جميع أنحاء البلاد.
ووفقاً للخبير الاقتصادي فيليب ماكان، فإن المملكة المتحدة هي على الأرجح دولة كبيرة ذات دخل مرتفع تعاني على مستوى العالم من أكبر تفاوتات اقتصادية بين مناطقها وأجزائها المختلفة. وقد اتسعت هذه الفجوات في العقود الأخيرة. وفي عام 2019، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في لندن 73 ألف دولار، أي أعلى بنسبة 90 في المئة تقريباً من نصيب الفرد المسجل في اسكتلندا وشرق إنجلترا، حيث لم يتخط 38 ألف دولار. ولم يؤد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي نجم عنه انخفاض في صادرات الصناعات التحويلية في حين سمح لاقتصاد الخدمات بمواصلة الازدهار، إلا إلى تفاقم هذه التفاوتات الإقليمية؛ وداخل إنجلترا وحدها، من المتوقع أن تصل فجوة الثروة بين الجنوب الشرقي والشمال الضعيف والمتعثر إلى 290 ألف دولار للشخص الواحد بحلول عام 2030.
إن جميع القضايا الكبيرة التي أثارها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف تُطرح مجدداً
وحتى بوريس جونسون اعترف بذلك. وكانت السياسات المميزة التي اعتمدها في الداخل هي “التسوية”، أي جعل جميع المناطق تتوافق مع معايير المناطق الجنوبية الغنية. لكن لم يتمكن أي من جونسون أو خلفائه من إحراز تقدم كبير نحو تحقيق هذا الهدف. في مارس (آذار) الماضي، وجد تقرير صادر عن لجنة الحسابات العامة في البرلمان التي تضم جميع الأحزاب أن النسبة التي أُنفقت من التمويل “لأجندة التسوية” لم تتخط 10 في المئة وأن الوزراء المحافظين لم يتمكنوا من تقديم “أي أمثلة مقنعة” لما أنجزه التمويل. وهذه الإخفاقات ليست مجرد نتاج لعدم الكفاءة؛ فهي تسلط الضوء على أن دولة ما بعد الإمبراطورية، التي تُتخذ فيها القرارات من أعلى إلى أسفل، غير قادرة على نقل السلطة الحقيقية إلى دولها الأعضاء ومناطقها المهملة.
وباعتباره حزباً معارضاً، لم يكن حزب العمال غافلاً عن هذه القضايا. في عام 2022، نشر النتائج التي توصلت إليها لجنة براون بشأن مستقبل المملكة المتحدة، التي ربطت مباشرة بين الركود الاقتصادي في المملكة المتحدة وأشكال الحكم فيها: “في قلب هذا الفشل” يكمن “نظام حكم قديم [لم يخضع لأي إصلاحات] ومفرط في المركزية، يشكو ملايين الناس فيه من تعرضهم للإهمال والتجاهل ومن فكرة اعتبارهم غير مرئيين”، وعلى حد تعبير اللجنة، هؤلاء الناس يرون على نحو متزايد “أنهم يعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية في بلدهم”.
ومع وضع هذا العجز الديمقراطي في الاعتبار، اقترحت لجنة براون تغييرات دستورية جذرية، من بينها إلغاء مجلس اللوردات “الذي لا يمكن تبرير وجوده” واستبداله بـ “مجلس الدول والمناطق” المنتخب، وتعزيز المكانة والسلطات التي تتمتع بها الهيئات الاسكتلندية والويلزية والإيرلندية الشمالية، والمدن والمناطق في إنجلترا. إضافة إلى ذلك، أوصت اللجنة على الأقل الشروع في وضع دستور مكتوب، يتضمن “قانوناً دستورياً يوجه طريقة تقاسم السلطة السياسية”، فضلاً عن “الحقوق الاجتماعية المحمية دستورياً، مثل الحق في الرعاية الصحية للجميع على أساس الحاجة، وليس على أساس القدرة على الدفع”.
في ذاك الوقت، كانت أفكار براون مدفوعة باعتقاده بأن هذه قد تكون الفرصة الأخيرة التي تحظى بها المملكة المتحدة لتصحيح مسارها. وقد أشارت استطلاعات الرأي إلى دعم الناخبين القوي للإصلاحات المقترحة، وأيدها ستارمر أيضاً. وعند إطلاق التقرير، توقع زعيم حزب العمال أن ينظر الناس إلى مضمونه يوماً ما على أنه “نقطة تحول بين اقتصاد قديم لم يكن ناجحاً واقتصاد جديد نجح في المملكة المتحدة بأكملها”. مع ذلك، لم يظهر أي من مقترحات براون في الحملة الانتخابية الحذرة للغاية التي انتهجها حزب العمال، ويبدو ستارمر متردداً في استخدام نفوذه السياسي الجديد من أجل مواجهة أي رفض أو مقاومة للتغييرات الجذرية في المملكة المتحدة.
الإصلاح أو الفشل
ما يتعين على الحكومة المقبلة أن تدركه هو أن المملكة المتحدة تغيرت على نحو لا رجعة فيه. لقد أنشأتها قوى تاريخية ضخمة وأبقتها متماسكة، بما في ذلك تطور الإمبراطورية البريطانية، وتأسيس هوية بروتستانتية (ومناهضة للكاثوليكية بشكل واضح)، والثورة الصناعية، والأسلحة البريطانية التي لا تُقهر في القرنين التاسع عشر والعشرين، والاختراع الناجح لنظام ملكي “مترابط”، وبناء ديمقراطية اجتماعية في فترة ما بعد الحرب. لكن كل هذه العوامل الداعمة للاستقرار اختفت. فالإمبراطورية تفككت، ولم تعد المملكة المتحدة دولة ذات غالبية مسيحية، أو دولة بروتستانتية؛ وأُهملت قاعدتها الصناعية في عهد تاتشر؛ أما أيام قوتها العسكرية فولت منذ فترة طويلة؛ وبوفاة الملكة إليزابيث خسر النظام الملكي أسسه التاريخية؛ علاوة على ذلك، دمر المحافظون عديداً من إنجازات الديمقراطية الاجتماعية البريطانية.
لا يزال من الممكن إلى حد ما تخيل مملكة متحدة جديدة ومختلفة تماماً، تحتضن التنوع في الهويات الوطنية والإقليمية والعرقية وتستفيد من نقاط القوة الاقتصادية المحتملة من خلال إعادة الانفتاح على التجارة ورأس المال البشري من أوروبا وخارجها. لكن يجب على ستارمر وأعضاء حكومته أن يبدأوا بالاعتراف بأن ما أعاق تقدم البلاد لم يكن حكومة أوروبية غير خاضعة للمساءلة في بروكسل، بل حكومة تنتهج مركزيةً مفرطة في لندن، أنشئت في الأصل لحكم إمبراطورية واسعة فيها رعايا لا صوت لهم، لكنها تحكم الآن جزيرة صغيرة نسبياً يرغب مواطنوها في تقرير مصيرهم.
من المؤكد أن ستارمر سيحاول، ولو بتردد في البداية، إعادة بناء الديمقراطية الاجتماعية التي دعمت المملكة المتحدة في العقود التي كانت فيها الإمبراطورية تتلاشى ومنحت الناس العاديين في كل جزء من البلاد شعوراً ملموساً بالانتماء المشترك. ويبدو أنه يدرك، على الأقل من حيث المبدأ، أن المستقبل الوحيد الممكن بالنسبة إلى المملكة هو في الواقع، أن تتحول إلى ديمقراطية فيدرالية تتدفق فيها السلطة من وإلى الدول والمناطق، والشعوب التي تسكنها [أي تتوزع فيها السلطة بين الدول والمناطق وسكانها]. علاوة على ذلك، فهو ماهر إلى حد ما في إعادة الابتكار، إذ إنه طور نفسه [أعاد ابتكار نفسه] من شخصيته المبكرة بصفته محامياً يسارياً متطرفاً في مجال حقوق الإنسان إلى تكنوقراطي بارد، وعلى نحو مماثل نجح في تحويل حزبه بشكل جذري.
لن ينتعش الاقتصاد من دون حدوث تغييرات كبيرة في طريقة عمل البلاد
هل يستطيع ستارمر الذهاب إلى أبعد من ذلك وإعادة ابتكار مملكة متحدة جديدة؟ ليس هناك ما يشير بوضوح إلى أنه يريد تولي هذه المهمة. ويبدو أنه يميل إلى اعتبار انتصاره في أجزاء مختلفة من البلاد دليلاً على أن المملكة لا تزال موحدة وسليمة فعلاً؛ وأن استعادة لياقة الحكومة وكفاءتها وتماسكها من شأنه أيضاً أن يعيد إحياء الاعتزاز بالهوية البريطانية.
وفي المدى القريب، قد يكون على حق. من المؤكد أن مشاعر الارتياح والتجديد ستكون سائدة على نطاق واسع. لكنها لن تستمر ما لم تبدأ المجتمعات في رؤية تحسينات في الخدمات العامة، وانخفاض في معدلات الفقر، وارتفاع في الإنتاجية والأجور. ويتطلب تحقيق هذه النتائج إجراء تغييرات جوهرية في الطريقة التي تعمل بها البلاد، سواء على المستوى الداخلي أو في علاقاتها مع أوروبا. إن نفس الأنظمة السياسية التي أوصلت البلد إلى هذا المستنقع العميق لن تكون كافية لإخراجه منه. فهي لا تصلح لتحقيق الأهداف اللازمة مثل إعادة المملكة المتحدة تدريجاً إلى حيث تنتمي في الاتحاد الأوروبي، واستعادة الفخر بمؤسسات مثل هيئة الخدمات الصحية؛ وإقناع الناس في جميع أنحاء المملكة بأن لديهم دوراً متساوياً في تشكيل مستقبلها.
يتعين على ستارمر أن يخلق حلقة حميدة تتضمن تجديداً جذرياً للديمقراطية الراكدة في المملكة المتحدة يغذي اقتصادها المترهل ويتغذى منه [إنشاء حلقة حميدة حيث يؤدي التجديد الجذري للديمقراطية الراكدة في المملكة المتحدة إلى إنعاش اقتصادها الهش، الذي يعيد بدوره تنشيط عملية التجديد الديمقراطي]. ولكن من دون هذه الحلقة الحميدة، ستكون هناك حلقة مفرغة. وسوف تعاود خيبة الأمل السياسية الظهور بسرعة. لقد صوت أكثر من أربعة ملايين شخص لمصلحة حزب “ريفورم” اليميني الذي يتزعمه فاراج، مما منحه 14 في المئة من إجمالي ناخبي الحزب. وعلى رغم أن آلية النظام الانتخابي لم تترجم ذلك إلا إلى أربعة مقاعد في مجلس العموم (بما في ذلك مقعد لفاراج نفسه)، فهذا من شأنه أن يمنحه قاعدة صلبة يستطيع من خلالها استغلال الفوضى التي يعاني منها المحافظون.
وإذا فشل ستارمر في تحويل الغضب الشعبي إلى تفاؤل طويل الأمد، فإن الشعور باليأس سوف يغذي النزعة القومية الإنجليزية الساخطة التي يستغلها فاراج. وفي ظل هذه الفوضى الكبيرة السائدة داخل التيار المحافظ التقليدي، من الممكن أن يهيمن تيار شبيه بـ “ماغا” [اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى] على المشهد اليميني في السياسة الإنجليزية. وستكون إحدى عواقبه الرئيسة هي عرقلة أي تحركات للعودة إلى أوروبا. وهذا بدوره سيؤدي إلى إعادة إحياء نزعة الاستقلال في اسكتلندا، وإيرلندا الشمالية، وويلز.
إن انتصار حزب العمال منح المملكة المتحدة فرصة لإنقاذ نفسها من خلال إعادة تجديد نفسها، وقد تحقق هذا النصر بسبب الاستياء الكبير من طريقة سير الأمور في البلاد، ومن الإخفاقات الواضحة المتعددة. وإذا أدرك ستارمر أن انتصاره هو نتيجة لانهيار المملكة المتحدة، فسوف يتحلى بالشجاعة اللازمة للبدء في إيجاد حلول. وإذا لم يفعل ذلك، فالمشكلات ستستمر وستؤدي إلى عواقب وخيمة، ومن المحتمل أن تصبح غير قابلة للإصلاح. لقد انهار الحزب الذي هيمن على البلاد لمدة 200 عام، وسيكون من السذاجة أن نعتقد أن البلاد لا يمكن أن تواجه مصيراً مماثلاً.