هل يريد ترمب السيطرة على النفط الفنزويلي؟

كتب أنس بن فيصل الحجي في صحيفة إندبندنت عربية.
لماذا قررت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب القيام بعمليات إنزال نفذتها قوات خاصة على ناقلة نفط فنزويلي والسيطرة عليها وقيادتها إلى ميناء هيوستن؟ هل هذه بداية لعمليات مماثلة؟ هل القصد هو خفض إيرادات الحكومة الفنزويلية حتى تنهار؟ إدارة ترمب أعلنت رسمياً أنها تريد من الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أن يستسلم ويترك السلطة ويرحل، ما مشكلة ترمب مع مادورو؟ هل يريد ترمب السيطرة على النفط الفنزويلي؟ هل من مصلحة الولايات المتحدة شن حرب في فنزويلا لإسقاط النظام؟ ما دور إسرائيل و”حزب الله” وغزة في هذه القرارات؟ ما أثر السيطرة على هذه الناقلة في أسواق النفط؟ ما الأثر إذا استمرت الولايات المتحدة في هذه العمليات؟ ما أثر تدخل عسكري أميركي في فنزويلا في أسواق النفط؟ ما أثر تغير النظام في فنزويلا في أسعار النفط… أسئلة كثيرة، والأجوبة قليلة، إن وجدت!
عرف النفط في فنزويلا منذ قرون، قبل أن يكتشف الأوروبيون المنطقة، حين كان السكان الأصليون، الذين سماهم الأوروبيون “الهنود الحمر”، يستخدمونه في مجالات الطب والبناء وصناعة الأدوات، إلا أن النفط لم يكتشف بالمفهوم الحديث إلا عام 1913 حول بحيرة ماراكايبو، قبل اكتشافه في العالم العربي. وتركيزي هنا على اكتشاف النفط في فنزويلا قبل العالم العربي يعود إلى أن هذا الأمر أدى دوراً كبيراً في أمور تاريخية حاسمة، سأذكرها لاحقاً.
الحدث الذي جعل فنزويلا محط أنظار الدول الأوروبية والولايات المتحدة هو اكتشاف شركة “رويال دتش شل” (الآن شل)، كميات هائلة من النفط في بحيرة ماراكايبو عام 1922، الذي حصل قبل اكتشاف النفط في دول الخليج. تطوير هذه الاكتشافات جعل النفط هو المورد الرئيس لدخل الحكومة الفنزويلية، ودخول شركات أميركية وأوروبية لتطوير هذه الاكتشافات، ونتج من وجود النفط صراع عالمي حول هذه الثروة وصراع بين الشركات والحكومات المتعاقبة، وأسهم في تعدد الانقلابات العسكرية، بعضها مدعوم من الولايات المتحدة وبعضها ضد الولايات المتحدة، الأمر الذي نتج منه تطوير فكرة المشاركة في الأرباح والفكرة المعروفة بـ50 في المئة و50 في المئة.
في تلك الفترة اكتشف النفط في الخليج وبعض الدول العربية، وبدأت الشركات الدولية تخفض استثماراتها في فنزويلا وتزيدها في الدول العربية بسبب المطالب المتزايدة لحكومة كاراكاس، التي قلصت أرباح الشركات. هنا علينا أن نتذكر أن قادة فنزويلا كانوا من الأوروبيين البيض، ونظرتهم للعالم العربي لا تختلف عن المستعمرين البيض، عندما رأوا أن الشركات تتحول للعالم العربي بعد رفض الضرائب والمشاركة بنسبة 50 في المئة، قررت الحكومة وقتها “تعليم العرب” فأرسلوا وفداً لزيارة بعض الدول العربية، ظاهر الأمر أنه تعاون، ولكن في الحقيقة هو لإحداث شق بين العرب وشركات النفط الأجنبية عبر إقناع العرب بتبني النموذج الفنزويلي عن طريق رفع الضرائب وتبني المشاركة بالأرباح بنسبة 50 في المئة. هذه الفكرة كان ظاهرها أنهم مهتمون بالمصالح العربية ولكن في الحقيقة الهدف هو رفع كلف الشركات العاملة في العالم العربي وخلق مشكلات بين الحكومات والشركات كي تعود الأخيرة إلى فنزويلا.
طار الوفد إلى الشرق الأوسط، ولكن الدول العربية رفضت استقباله، عنجهية الرجل الأبيض الفنزويلي أنسته أنه صوت لصالح إسرائيل في الجمعية العمومية للأمم المتحدة الذي نتج منها تقسيم فلسطين، فلم تستقبله إلا طهران، ونتج من هذه الزيارة تبادل المعلومات مع الإيرانيين، وهو الذي نتج منه ثورة مصدق عام 1951، وتأميم النفط الإيراني، وهرب الشاه إلى العراق ثم إلى إيطاليا.
تاريخياً، كان هناك انقسام سياسي حاد في فنزويلا، قسم مؤيد للولايات المتحدة وإسرائيل، وآخر داعم للاتحاد السوفياتي وفلسطين، وهذا الانقسام موجود اليوم، إذ إن الرئيس مادورو مؤيد لفلسطين وقائدة المعارضة التي حصلت على جائزة نوبل أخيراً داعمة لإسرائيل، ولا يمكن تجاهل هذه الفكرة عند الحديث عن الهجوم الذي تشنه الإدارة الأميركية على الرئيس الفنزويلي بالاسم واتهامه بتهريب المخدرات ووصمه بالإرهاب، ولكن أيضاً لا يمكن تجاهل موضوع الفساد الإداري الذي دمر مؤسسات الدولة في الـ20 عاماً الأخيرة في هذا البلد، بما في ذلك قطاع النفط.
تعدد الانقلابات جاء بحكومات مختلفة السياسات، إلى أن جاءت حكومة وطنية في نهاية الخمسينيات، التي أسهمت في تأسيس “أوبك” عام 1960، وكان العقل المفكر لذلك هو الدكتور خوان ببلو بيريز ألفونسو الذي استغل وجوده في المنفى الموقت في تكساس بعد حصول انقلاب عسكري أطاح الحكومة التي كان وزيراً فيها، لدراسة دور سكة حديد تكساس في إدارة إنتاج الولاية على رغم الملكية الخاصة للنفط. أعجب خوان بالفكرة وطورها إلى ما عرف لاحقاً بـ”أوبك” إلا أن ذلك يحتاج إلى دعم وتعاون الدول الأخرى، فعرفه بعض الطلاب على الشيخ عبدالله الطريقي الذي كان يدرس معهم في تكساس، والذي أصبح أول وزير بترول سعودي لاحقاً، وتوافقت أفكار الرجلين على رغم اختلاف العمر، وجرى تطوير الفكرة حتى تأسيس “أوبك” في بغداد خلال سبتمبر (أيلول) عام 1960.
قامت فنزويلا بتأميم الغاز عام 1971 والنفط في عام 1976، وعندها أسست شركة النفط الفنزويلية المعروفة بـ”PDVSA”، هذا التأميم غير وجهة الصراع من خلاف بين الحكومات الوطنية وشركات النفط العالمية إلى صراع داخلي بين الفئات والأحزاب المختلفة، إذ إن التأميم أدى إلى تدخل حكومي مباشر في السياسات النفطية للشركة، وفي التسعينيات جاءت حكومة يمينية محافظة حررت الاقتصاد وفتحته أمام الاستثمارات الأجنبية فارتفع إنتاج فنزويلا بصورة كبيرة ووصل إلى ذروته وتجاوز 3 ملايين برميل يومياً، الأمر الذي خلق مشكلتين، مشكلة داخلية بسبب زيادة فجوة الدخل بين الفقراء والأغنياء، ومشكلة خارجية مع “أوبك”، والذي نتج منه أمران: الإسهام في انهيار أسعار النفط عامي 1998 و1999 ونجاح هوغو شافيز في الانتخابات، الذي أدى إلى تحول فنزويلا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
ووفقاً للبيانات الرسمية، فإن فنزويلا تحظى بأكبر احتياطات نفطية في العالم التي تقدر بـ300 مليار برميل، والتي تمثل نحو خُمس الاحتياطات العالمية المعروفة، ومع ذلك فإن إنتاجها النفطي قد انخفض بصورة كبيرة في الأعوام الأخيرة بسبب الفساد المستشري، والإدارة السيئة، والعقوبات الأميركية. وبدأت أزمة شركة النفط الفنزويلية وانهيار الإنتاج عام 2022 عندما حصل إضراب عام في البلاد شمل موظفي وعمال شركة النفط الفنزويلية، ثم حصل انقلاب عسكري أطاح الرئيس هوغو شافيز، ولكنه عاد للحكم بعد ثلاثة أيام. استمرار إضراب عمال شركة النفط الفنزويلية، وهي شركة حكومية، جعل شافيز يطرد العمال والموظفين المضربين، وجرى استبدال آخرين لا خبرة لهم في مجال النفط بهم، فبدأت الشركة تعاني، ثم بدأ الإنتاج بعدها بالانخفاض التدريجي.
ما سبب انزعاج الحكومات الأميركية من فنزويلا؟
هناك أسباب عدة أزعجت الأميركيين منها التوجه اليساري للحكومة، ودعم التوجهات اليسارية في أميركا الجنوبية، والدعم المستمر لكوبا، والهجرة الضخمة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة، والاشتباه في أنه جرى الإفراج عن عتاة المجرمين من السجون الفنزويلية وإرسالهم إلى الولايات المتحدة، ومعاداة إسرائيل، وتأييد حقوق الفلسطينيين، وزيادة نشاط “حزب الله” في فنزويلا وتسلم أشخاص محسوبين على الجماعة اللبنانية مناصب وزارية، والتعامل مع روسيا والصين.
وما أجج الأمور أنه في عهد الرئيس السابق جو بايدن جرى عقد اتفاق مع حكومة مادورو لإجراء انتخابات حرة، ووفقاً للحكومة الأميركية فإن الرئيس الفنزويلي نقض العهد، وزور الانتخابات التي فاز فيها، لذلك فهو رئيس غير شرعي. رد فعل إدارة ترمب على مادورو هو تكرار لسياسات قديمة، تجميع أكبر قدر ممكن من الاتهامات وخلق كثير من القوانين التي تجرم النظام وأفراده حتى يأتي اليوم الذي يجري فيه تطبيق هذه القوانين، فصدرت الاتهامات بتجارة المخدرات، ثم جرى قصف قوارب قالوا إنها تهرب المخدرات، ثم تصنيف عصابة تهريب مخدرات أنها إرهابية، وقالوا إن مادورو هو رئيس العصابة، ومن ثم فهو إرهابي، ورفعت الولايات المتحدة الجائزة لمن يساعد في القبض عليه إلى 50 مليون دولار.
ما أثر السيطرة الأميركية على الناقلة المحملة بالنفط الفنزويلي؟
منذ اللحظة الأولى للخبر، كان واضحاً أن هناك شيئاً غير منطقي حول هذه الناقلة التي كانت سابقاً تنقل النفط الإيراني، ناقلة تحمل علم غويانا تنقل النفط الفنزويلي إلى كوبا وتديرها شركة نيجيرية! ما بين غويانا وفنزويلا ما صنع الحداد، والولايات المتحدة ضد كوبا وفي الأسابيع الأخيرة كانت إدارة ترمب تشن هجوماً كبيراً على نيجيريا بحجة مقتل مسيحيين، في اليوم التالي تبين أن الناقلة تحمل علم غويانا للتمويه، وأنها ليست مسجلة في هذا البلد، ولكن لا يستبعد أن تكون الشحنة تابعة لبعض عناصر “حزب الله” في فنزويلا، ومتجهة إلى كوبا، على رغم أن البعض يقول إنها كانت متجهة للصين.
وفي رأيي أن الهدف هو كوبا وليس فنزويلا، فهذه الناقلة هي واحدة من نحو 40 بالنسبة إلى فنزويلا، ولكنها الناقلة الوحيدة بالنسبة إلى كوبا، وفقدها سيسبب أزمة كهرباء خانقة فيها. الأثر في أسواق النفط بسيط وتمركز حول ارتفاع أسعار النفط وقت الحادثة ثم تراجعها، الحكومة الأميركية تقول إن هذه العمليات ستستمر، لا شك أن استمرار هذه العمليات سيرفع من أسعار النفط، ولكن أمر استمرار هذه العمليات مشكوك فيه.
ومن المتوقع أن تقوم القوات الجوية الأميركية بضرب أهداف معينة داخل فنزويلا تقول إنها مراكز لعصابات المخدرات، وأثر ذلك في أسواق النفط بسيط، أما بالنسبة إلى الأمور الأخرى فيمكن اختصارها بما يلي، زيادة إنتاج فنزويلا من النفط يحتاج إلى وقت طويل، وإذا بدأ غداً فإن الزيادة الملموسة ستكون بعد انتهاء عهد ترمب، أما القول إن إدارة ترمب ترغب في غزو فنزويلا للسيطرة على النفط الفنزويلي لإرواء عطش أميركا من النفط الثقيل فهو هراء، وهو لا يختلف عن كل نظريات المؤامرة التي ذكرت عن العراق وإيران وأفغانستان وسوريا واليمن والسودان! فإذا كان الهدف هو النفط فإن إدارة ترمب تستطيع مضاعفة واردات الولايات المتحدة من النفط ثلاث مرات خلال أسابيع بتوقيع واحد من ترمب، كذلك فإن الشركات الأميركية ما زالت تعمل في فنزويلا وحالياً الولايات المتحدة هي أكبر مستورد للنفط بعد تحول الصين من فنزويلا إلى كندا.




