هل “يتنزّل الربُّ القدير” ليُنحّيَ بايدن مُرشّحاً؟
كتب أسامة أبو ارشيد في صحيفة العربي الجديد.
في الأول من سبتمبر/ أيلول عام 2022، وقبل شهرين من الانتخابات التشريعية الأميركية النصفية، التي كانت استطلاعات الرأي تتنبّأ باجتياح جمهوري كاسح لها على حساب الديمقراطيين، اختار الرئيس جو بايدن أن يُلقِي خطاباً للشعب الأميركي من قاعة الاستقلال في فيلادلفيا في ولاية بنسلفانيا. لم يكن اختيار المكان عبثيّاً، كما أوضح بايدن نفسه في خطابه، إذ “فيها أعلنت أميركا استقلالها منذ أكثر من قرنين… (وفيها) كُتِب دستور الولايات المتّحدة. ومنها أطلقنا التجربة الأكثر استثنائية للحكم الذاتي التي عرفها العالم”. كانت رسالة بايدن واضحة وبسيطة ومباشرة، مُكتسبات الأميركيين في الديمقراطية والحرّيات المدنية والحقوق الدستورية في خطر، ومهدّدة من الرئيس السابق دونالد ترامب، وتيّاره (ماغا)، الذي أحكم سيطرته على الحزب الجمهوري. و”ماغا” اختصار لشعار ترامب “اجعلوا أميركا عظيمة مرّة أخرى”. لم يتردّد بايدن في خطابه ذاك في وصف الرئيس السابق وتيّاره بأنّهما يُشكّلون “خطراً” و”تهديداً” لأميركا، مُذكّراً برفض ترامب الاعتراف بخسارته الانتخابات عام 2020، واقتحام أنصاره، مطلع 2021، مبنى الكونغرس في محاولة لوقف نقل السلطة دستورياً. حينها، لم يكن كثير من الديمقراطيين مُقتنعين باستراتيجية الرئيس القائمة على الضرب على وتر مخاوف الأميركيين من شبح ترامب الغاضب، والراغب في الانتقام، والمُشبَع بقناعات وتوجّهات استبدادية، ولكنّ نتيجة الانتخابات لم تثبت خطأ استطلاعات الرأي وقتها فحسب، بقدر ما أنّها أثبتت دقّة حسابات بايدن، وخطأ حسابات من خالفوه بين الديمقراطيين. خسر الديمقراطيون مجلس النواب، ولكن بفارق أربعة مقاعد، وليس كما كانت تقترح استطلاعات الرأي بأكثر من 60 مقعداً، كما عزّزوا أغلبيتهم في مجلس الشيوخ، بمقعد إضافي (49 – 51).
بعد النجاح الديمقراطي الكبير في تجنّب موجة جمهورية حمراء عاتية تجرفهم عام 2022، مَدينين في ذلك لفزّاعة ترامب التي نصبوها وأثارت مخاوف الأميركيين، رست الحملة الانتخابية لبايدن عند هذه الاستراتيجية، بل إنّها كانت تتمنّى أن يكون ترامب هو المُرشّح الجمهوري المقابل لهم. وعندما تحقّق لهم ما أرادوا لم يدّخر الرئيس فرصةً لتذكير الأميركيين بـ”التهديد” الذي يُمثّله ترامب للديمقراطية الأميركية، واستفادت الحملة من القضايا الفدرالية والولائية التي يواجهها الرئيس السابق، بما فيها قضية اقتحام أنصاره مبنى الكونغرس، وكذلك ضغطه من أجل تزوير نتيجة انتخابات ولاية جورجيا، التي خسرها. لكن، هذه الاستراتيجية سقطت سقوطاً مدوّياً في المناظرة الرئاسية الأولى بين بايدن وترامب في 27 يونيو/ حزيران الماضي، وبدا فيها بايدن مُنهكاً، وَهِنَاً، مُشتَّتاً، تائهاً وخَرِفَاً. مباشرة، ثار الذعر بين الديمقراطيين، خصوصاً أنّ استطلاعات الرأي أكّدت انتصار ترامب في المناظرة، وأنّه كان أكثر تماسكاً وإدراكاً من بايدن، ثمَّ ما لبثت الاستطلاعات أن أظهرت بثبات أنّ ترامب، على الأرجح، سيربح الانتخابات الرئاسية بعد أقلّ من أربعة أشهر، إذا بقي بايدن مُرشّح الديمقراطيين. هكذا، تحوّل بايدن من أكثر الديمقراطيين تأهلا لمنع دورة رئاسية ثانية لترامب، ولردع “خطره” على أميركا، إلى المُرشّح الديمقراطي الأضعف، الذي قد يُقدِّم الرئاسة لترامب على طبق من ذهب، مع أنّه لم يكن مضى شهر على إدانته (ترامب) بـ34 تهمة جنائية في قضايا احتيال ضريبي ومخالفة لقوانين التمويل الانتخابي عام 2016. ومن ثمَّ، لم يكن مُستغرباً أن يسارع ديمقراطيون، ومن المؤثّرين والمتبرّعين الكبار، إلى مطالبة بايدن بالتنحّي عن الترشّح، وإفساح المجال لبديل له قبل المؤتمر الحزبي الديمقراطي في الشهر المقبل (أغسطس/ آب)، لكنّ بايدن رفض كلّ تلك الدعوات والضغوط عليه.
تحوّل بايدن إلى المُرشّح الديمقراطي الأضعف، الذي قد يُقدِّم الرئاسة لترامب على طبق من ذهب
اللافت أنّ بايدن لا يزال يُصرّ أنّه “الأكثر تأهلا ليكون رئيساً… وللفوز بهذا السباق (الانتخابي)”، كما قال في المقابلة التلفزيونية التي أجرتها معه محطة سي بي أس الأميركية يوم الجمعة الماضية. كانت حملته الرئاسية تطمح أن تعيد تلك المقابلة بثَّ ثقة الديمقراطيين والناخبين في مرشّحهم. ولكنه، رغم عدم ارتكابه أخطاءَ كارثيةً، بدا فيها باهِتاً وضعيفاً. أمّا المفارقة الأبرز فجاءت حين سأله المُحاوِرُ ما إذا كان سيقبل بالتنحّي إذا ما ثبت أنّ بقاءه مُرشّحاً سيأتي بترامب رئيساً، وهو ما يزعم بايدن أنّه في مُهمّة للحيلولة دونه. “يعتمد الأمر على ما إذا كان الربّ القدير سيأتي ويقول لي ذلك، فربّما أفعل ذلك”. هكذا أجاب بايدن. ثمَّ، أضاف “إذا نزل الربّ القدير، وقال: جو، اخرج من السباق، فسأخرج من السباق. لكنّ الرب القدير لن ينزل”. هنا، ربما كان يُفترض في المُحاوِر أن يسأل بايدن عمّا إذا كان فعلاً يختلف عن ترامب في ولهه بالسلطة وتمسّكه بها؟… كما بايدن، فإنّ ترامب يرى نفسه “المُخلّص” “والمُنقِذ” “والقائد المُلهِم” و”الزعيم الأوحد” و”مبعوث العناية الإلهية”، وهي عبارات وصف بها الأكاديمي إمام عبد الفتّاح إمام الطاغيةَ في كتابه القيّم “الطاغية”، وصدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية (183 مارس/ آذار 1994).
الخبر السيئ لبايدن أنّ “الربّ القدير” قد يتنزّل فعلاً ويُنحّيه عن الترشّح رغماً عنه، أو ربّما يجعل منه عبرةً لكلّ مُكابِر ومُعانِد، ومجرم حرب كما في شراكته الخسيسة في جريمة إبادة قطاع غزّة، عبر خسارته الانتخابات لصالح رجل مدان جنائياً، ولا يَقلُّ انحطاطاً وإجراماً عنه. إنّه قدر العالم المُبتلَى بالهيمنة الأميركية أن يختار بين سيّئ وسيّئ، سواء حَكَم ديمقراطيون يزعمون المثالية الزائفة أم جمهوريون لا يتورّعون عن إبراز الوجه البلطجي الحقيقي لتلك الهيمنة.