هل فقد دونالد ترمب شغف إحلال السلام في أوكرانيا؟

فيما يترك الرئيس الأميركي لموسكو وكييف مهمة التوصل إلى وقف لإطلاق النار يطرح السؤال: هل هو انعكاس لضعف تركيزه الشهير وقصر نفسه أم مجرد محاولة منه للنأي بنفسه عن فشل شبه مؤكد؟
كتب شون أوغرايدي, في اندبندنت عربية:
فقد ترمب سريعاً اهتمامه بمساعي السلام بعد قمة ألاسكا، إذ بدت وعوده بـ”إنهاء الحرب خلال 24 ساعة” بلا جدوى في ظل شروط بوتين المتشددة ورفض زيلينسكي التنازل عن أراضٍ سيادية. ومع تصاعد حرب الاستنزاف وتدهور الاقتصاد الروسي، بدا ترمب أقل ميلاً إلى مساعدة “صديقه” بوتين، وهذا في الواقع هو أفضل ما يمكن أن يُتوقع منه.
لا قيمة إذاً لعملية السلام في أوكرانيا، ولا لوعود “إنهاء الحرب خلال 24 ساعة”، مجازياً كان أم حرفياً، ولا لجائزة نوبل للسلام التي كان ترمب يظن أنه سينالها. فالصبر واحد من جملة الفضائل العديدة التي يفتقر إليها الرئيس ترمب، إذ لم يمض سوى أقل من أسبوع على القمة “التاريخية” في ألاسكا، حتى بدا وكأنه فقد اهتمامه بالتوصل إلى “صفقة القرن”.
وبدلاً من عقد لقاءات ثنائية وثلاثية “على الفور تقريباً” كما كان يتباهى بذلك قبل بضعة أيام فحسب، يبدو أن ترمب ضاق ذرعاً سريعاً بـ”فلاد” و”فولود”.
واستناداً إلى ما أعلنه البيت الأبيض فإن “الرئيس ترمب يتابع مع فريقه للأمن القومي التواصل مع المسؤولين الروس والأوكرانيين، سعياً إلى ترتيب اجتماع ثنائي يوقف إراقة الدماء ويضع حداً للحرب… لكن ليس من المصلحة الوطنية الاستمرار في التفاوض على هذه القضايا علناً”.
مهما يكن، فإن من المفهوم تماماً شعور ترمب بالملل من إحجام كل من فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي عن الانخراط في محادثات مباشرة، كما لو أنهما يساومان على مشروع عقاري فاخر على شاطئ البحر. والحقيقة أن لكل طرف شروطه المسبقة للدخول في أي تفاوض – وإن كان الروس أكثر تشدداً في هذا المجال من الأوكرانيين – مما يجعل محاولة ترمب دفعهما إلى الجلوس معاً للحديث بما لا يرغبان فيه أصلاً، بلا جدوى.
يرى بوتين أن كلما طال أمد كسب الوقت، زادت “مفرمته البشرية” على الجبهة تقدماً، وبهذه الطريقة، إذا ما استقرت خطوط المواجهة في نهاية المطاف وجمدت نقاط التماس، يكون حقق أقصى مكاسبه – وإن كان ذلك بكلفة بشرية باهظة. إنها حرب استنزاف تطاول الجانب الروسي نفسه بقدر ما تطاول القوات الأوكرانية والمدنيين.
أما زيلينسكي – ومن منطلق مبرر – فهو لا يستطيع التنازل عن أراض ذات سيادة لا يملك حقاً شرعياً أو إلهياً لتسليمها. حتى لو وافق على ذلك، أو صوت الشعب الأوكراني على قبول الأمر من خلال استفتاء، فإن هذه الخطوة ستظل بلا جدوى ما لم تقدم لكييف ضمانات أمنية قوية تثني بوتين، أو أي خليفة له يتبنى نهجه، عن القيام بمحاولة غزو أخرى لأوكرانيا.
في هذه النقطة، يشير خبراء إلى أن إذا قام زيلينسكي بمقايضة منطقتي لوغانسك ودونيتسك بالسلام في بلاده، فسيخسر بذلك مواقع دفاعية رئيسة، وهو ما يترك كييف عرضة لخطر هجوم ناجح لا محالة، إلى درجة أنه حتى قوات غير منظمة تابعة للرئيس الروسي قد تتمكن من الاستيلاء على العاصمة الأوكرانية.
ونظراً إلى أن التزام ترمب حفظ سلامة أراضي أوكرانيا يبدو ضعيفاً إلى حد يضاهي احترامه لعهود الزواج، فإن زيلينسكي محق تماماً في توخي أقصى درجات الحذر. فمن وجهة نظره، يدرك أن الاقتصاد الروسي الذي ينفق 40 في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي على المجهود الحربي، معرض لخطر حقيقي وربما لانهيار محتمل. وقد يأمل أيضاً للأسف – وإن من دون أسباب قوية للتفاؤل – في أن يحقق “تحالف الراغبين” (مجموعة الدول التي اختارت طوعاً المشاركة في تدخل عسكري في أوكرانيا) النصر لأوكرانيا في نهاية المطاف.
من هنا، إذا ترك الطرفان المعنيان بالصراع لمصيرهما، فستظل هناك دائماً أعذار لعدم عقد أي اجتماع فعلي، سواء بسبب المكان غير المناسب، أو التوقيت السيئ، أو الشروط المسبقة، أو غياب وقف لإطلاق النار – ونتيجة لذلك، لن يُحرز أي تقدم.
ترمب، المعروف بقصر تركيزه وميله الذي يوحي بالخرف إلى التشتت، لم يكن ليقضي أشهراً وأعواماً من فترة رئاسته محاولاً إحلال السلام في إحدى أعقد وأكبر الحروب في العالم. ولم يكن ليحذو حذو كل من الرؤساء السابقين في الولايات المتحدة مثل وودرو ويلسون وريتشارد نيكسون وجيمي كارتر وبيل كلينتون، في تكريس طاقاته المحدودة لإعادة تشكيل العالم. في النهاية، إن ترمب انعزالي يؤمن بشعار “أميركا أولاً”، واعترف بقلة اهتمامه بالتاريخ الكامن وراء هذه الانقسامات العالمية الكبرى، والتركيز في المقابل على ما يجيده، أو ما يعتقد أنه يجيده، وهو إبرام الصفقات.
لكن، من قبيل الإنصاف، ربما يكون الرئيس الأميركي ببساطة متردداً في أن يرتبط اسمه بفشل شبه مؤكد. وهذا ما يفسر أيضاً موقفه المتنصل من التدخل في ملف غزة، وإيكاله سياسة الولايات المتحدة هناك إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
سلام تقاسم أوكرانيا بين بوتين وترمب
في المقابل، يبدو أن ترمب أدرك أخيراً أن الزعيم الروسي يستغله، لا بل اعترف لنفسه وللآخرين بأن (بوتين) “ربما لا يرغب في إبرام صفقة”. ويشعر الرئيس الأميركي بـ”خيبة أمل” تجاه نظيره الروسي، لكن ليس إلى درجة تدفعه إلى ممارسة أي ضغط عليه.
ومع تفاقم الأوضاع في ساحة المعركة، يمكن له بسهولة أن يدعي أن هذه هي “حرب جو بايدن”، نافياً أية نية لديه لإنهائها. لقد صيغت بالفعل الذريعة لتبرير الفشل.
كان من الممكن لهذا الوضع أن يكون أسوأ. فعندما بدأ دونالد ترمب ممارسة مهام ولايته الثانية داخل البيت الأبيض، جعل الولايات المتحدة تنقلب إلى المعسكر الآخر ضمن الحرب الأوكرانية. وهو يردد حتى الآن حجج الكرملين ولا يزال يلمح إلى اعتقاده أن أوكرانيا هي التي بدأت الصراع، محملاً إياها المسؤولية عن “مواجهة دولة أكبر منها بعشرات المرات”، على رغم أنها هي التي تعرضت للغزو. ومن يستطيع أن ينسى المشاهد المخزية التي حدثت داخل المكتب البيضاوي خلال فبراير (شباط) الماضي؟ [المشادة التي حدثت أثناء اللقاء الذي جمع ترمب وزيلينسكي بحضور نائب الرئيس فانس]
لكن خلال الوقت الراهن، يبدو ترمب أقل انصياعاً لفلاديمير بوتين، وأقل عداءً لفولوديمير زيلينسكي. ففي السابق، كان يريد إنهاء الحرب ومكافأة روسيا على عدوانها. وكان يتعاطف مع المظالم الروسية في حق أوكرانيا. أما الآن، فقد سئم هذه القضية برمتها، ويبدو أقل ميلاً إلى مساعدة “صديقه” بوتين. وهذا في الواقع هو أفضل ما يمكن أن نتوقعه من دونالد ترمب.




