شؤون دولية

هل غيّرت الصين «القطبية الثنائية» النووية؟

تعكف وزارة الدفاع الدفاع الأمريكية «البنتاغون» على تقديم خيارات للرئيس دونالد ترامب للرد على ما تقول واشنطن إنه طفرة غير مسبوقة في إنتاج الصين للأسلحة النووية، وطرح الاستعراض الصيني «للمثلث النووي» في 3 سبتمبر (أيلول) الماضي أسئلة كبيرة في دوائر صنع القرار العسكري الأمريكي، حيث تأكد للولايات المتحدة أن الصين قادرة ليس فقط على منافستها في إنتاج الأسلحة النووية التكتيكية، بل نجحت القيادة الصينية بالفعل في تطوير الأدوات والوسائل التي تمكنها من توصيل القنابل النووية التي تستطيع ضرب أي شبر في الأراضي الأمريكية، وهي الأدوات التي يطلق عليها «المثلث النووي»، الذي يعني امتلاك الصين قدرات لتوصيل هذه الرؤوس النووية عبر قاذفات تنطلق من البر، ومن الطائرات في الجو، ومن السفن والغواصات في البحر.

بمعنى آخر، إن الولايات الأمريكية أو حلفاء واشنطن البعيدين عن مدى الصواريخ التي تنطلق من غرب وشمال الصين يمكن أن تصلها الرؤوس النووية من الطائرات الشبحية أو من الغواصات النووية الصينية، ولعل أكثر من أثار قلق الولايات المتحدة وأوروبا وجيران الصين في بحر الصين الجنوبي وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية هي صواريخ (DF26) و(DF41).

سبب قلق الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة أنها ترى في كمية ونوعية الرؤوس النووية و«المثلث النووي» المصاحب لها بمثابة انقلاب شامل على استراتيجية «الردع النووي المحدود» التي تبنتها الصين منذ إجرائها أول اختبار نووي في أكتوبر (تشرين الأول) 1964، وكانت تنص هذه الرؤية على «الردع النووي المحدود»، وهي الاستراتيجية التي استمرت حتى عام 2019 بالاكتفاء ب 200 أو 300 رأس نووي، وعدم الدخول في «سباق تسلح نووي» مع واشنطن وموسكو، واعتبار التنمية والازدهار وزيادة الصادرات والتحول نحو الابتكار هي وجهة الأمة الصينية بجانب تعزيز القوات التقليدية للجيش الصيني.

وزاد القلق الغربي عندما تزامنت هذه التحركات مع إجراء الصين في 25 سبتمبر (أيلول) الماضي أول تجربة إطلاق صاروخ بالستي عابر للقارات فوق المحيط الهادئ منذ عام 1980، ولهذا تقوم التقديرات الأمريكية على أن الصين زادت من وتيرة إنتاج القنابل النووية خلال السنوات الست الأخيرة، ورغم أن الصين حتى اليوم لا تزال متأخرة عن الولايات المتحدة وروسيا، لكنها قد تسبق الولايات المتحدة لو استمرت هذه الوتيرة المتزايدة من الإنتاج الصيني خلال السنوات الخمس القادمة بحسب تقدير الرئيس ترامب في شهر فبراير/ شباط الماضي، وليس هذا فقط هو مصدر القلق الأمريكي، فوفق معهد دراسات الحرب في العاصمة واشنطن وغيره من مراكز الأبحاث الأمريكية فإن التحدي الصيني لا يقتصر فقط على إمكانية تجاوزها عدد الرؤوس النووية الأمريكية وحتى روسيا، بل يأتي القلق من وصول عدد ونوعية الرؤوس النووية الصينية إلى مراحل متقدمة تتجسد في نجاح الصين في تحقيق «تكافؤ نووي إقليمي» يتمثل في تطوير الصواريخ النووية والغواصات التي لا تصدر صوتاً، والأجيال الجديدة من الطائرات الشبحية بما فيها طائرات الجيل السادس.

ويخشى البنتاغون من أن تقوم الصين بتقسيم ترسانتها النووية إلى «رؤوس نووية» في حوزة الجيش، بينما تكون هناك رؤوس نووية في مخازن يصعب رصدها أو مقارنتها بقدرات القوى النووية الكبرى الأخرى، وكل هذا دفع عام 2023 لجنة الكونغرس التي تراقب الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة إلى القول بأن التوسع النووي الصيني يجب أن يدفع صناع السياسة الأمريكيين إلى «إعادة تقييم حجم القوة النووية الأمريكية وتركيبتها». وفي مارس 2024 حذر الأدميرال جون أكويلينو، قائد القوات الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، قائلاً «لم نواجه تهديداً مماثلاً منذ الحرب العالمية الثانية». فهل الصين نجحت في «تغيير المعادلات النووية» الراسخة منذ ستينيات القرن الماضي التي كانت تقول إن هناك «ثنائية نووية» فقط تتمثل في روسيا والولايات المتحدة؟ وما هي دوافع الصين في المزاحمة النووية؟

النادي النووي
تمتلك 9 دول في النادي النووي نحو 12331 رأساً نووياً منها أكثر من 9,600 رأس في المخزونات العسكرية النشطة، وفقاً لتقرير «حالة القوى النووية في العالم لعام 2025» الصادر عن اتحاد العلماء الذريين، حيث تأتي روسيا في المقدمة بنحو 5549، والولايات المتحدة ب5277، والصين ب600 رأس، وفرنسا ب290، وبريطانيا بنحو 225، والهند ب180، وباكستان بنحو 170، وإسرائيل بنحو 90، وكوريا الشمالية بنحو 50 رأساً نووياً، ويهدد امتلاك الأسلحة النووية بخطر الانزلاق لسباق نووي أو حرب نووية في ظل سعي جميع دول النادي النووي لتحديث الأسلحة النووية.

لكن معهد إستوكهولم للسلام وصف الصين باعتبارها أكثر دول العالم التي ينمو فيها إنتاج الأسلحة النووية، ومن إجمالي المخزون العالمي الذي وصل لنحو 12331 رأساً حربياً في يناير/ كانون الثاني 2025، كان هناك حوالي 9614 رأساً في المخزونات العسكرية للاستخدام المحتمل، بينما جرى نشر نحو 3912 من هذه الرؤوس على الصواريخ والطائرات والغواصات، وكان الباقي في مخازن مركزية، لكن الأخطر أن هناك نحو 2100 من الرؤوس الحربية المنشورة جرى تركيبها في حالة تأهب تشغيلي قصوى على الصواريخ البالستية، وكان لافتاً أن الصين باتت تحتفظ الآن ببعض الرؤوس الحربية على الصواريخ خلال أوقات السلم.

وتمتلك الصين حالياً ما لا يقل عن 700 رأس نووي، وتنمو ترسانة الصين النووية بوتيرة أسرع من أي دولة أخرى، بنحو 100 رأس نووي جديد سنوياً منذ عام 2023، ، وفي يناير/ كانون الثاني الماضي كانت الصين قد أنجزت نحو 350 منصة جديدة للصواريخ البالستية العابرة للقارات في ثلاثة حقول صحراوية واسعة شمال البلاد وثلاث مناطق جبلية شرقها، ووفق تقديرات البنتاغون فإن الصين سوف تملك عدداً من الصواريخ البالستية العابرة للقارات يعادل على الأقل ما تمتلكه روسيا أو الولايات المتحدة بحلول عام 2030.

الصواريخ المزدوجة
تتفوق الصين في الوقت الحالي على كل من روسيا والولايات المتحدة في ما يسمى «الصواريخ المزدوجة» التي يمكن أن تحمل رؤوساً نووية أو تقليدية، وهذا يسبب الغموض لدى وزارة الدفاع الأمريكية التي كانت تقدر في السابق أن الصواريخ التي تحمل رؤوساً نووية وتستطيع أن تصل إلى البر الأمريكي يصل عددها إلى نحو 400 صاروخ صيني، لكن مع الصواريخ المزدوجة يصعب على المخابرات الأمريكية تقدير عدد الصواريخ الصينية الموجهة للأراضي الأمريكية.

واكتشفت الولايات المتحدة قدرة الصواريخ الصينية على الاستخدام المزدوج منذ إطلاق الصين للصاروخ «دي إف 27» في المحيط الهادئ، ووفق التقرير السنوي الذي يصدره الجيش الأمريكي فإن هذا الصاروخ يتمتع بخيار الحمولة الفائقة السرعة مع القدرة على الهجوم البري التقليدي، والقدرات التقليدية المضادة للسفن، والقدرات النووية حيث تصل سرعة هذه الصواريخ إلى أسرع 5 مرات من سرعة الصوت، وهو بذلك ثالث صاروخ «مزدوج الاستخدام» بعد الصاروخ «دي إف 21»، والصاروخ البالستي «دي إف 26» الذي يستطيع تبديل «الرأس الحربي» من تقليدي إلى نووي أو العكس أثناء التحليق نحو الهدف، وهو ما يعطي الصين مرونة كبيرة، وميزة استراتيجية عن طريق ربط أسلحتها التقليدية بقدراتها النووية.

ما هي دوافع الصين للمزاحمة النووية؟
منذ التحول الكبير نحو الزيادة الهائلة في الصواريخ النووية الصينية عام 2019 يعكف خبراء البنتاغون وحلف دول شمال الأطلسي (الناتو) بالإضافة إلى التحالفات العسكرية الأمريكية الآسيوية مثل «أوكوس» و«كواد الرباعي» على تحليل الأهداف والدوافع وراء هذا التحول، وهناك مجموعة من الخلاصات أبرزها:

1 – النفوذ الجيوسياسي:
أبرز التقديرات والقراءات الأمريكية لزيادة إنتاج الصين من الرؤوس النووية تقوم على أن بكين تسعى لتوظيف الأسلحة النووية لبناء مزيد من «النفوذ الجيو- سياسي» وليس فقط امتلاك قدرات نووية تسليحية، فهناك قناعة أمريكية بأن القيادة الصينية تؤمن بأن الأسلحة النووية تمنح قدراً كبيراً من النفوذ السياسي تجاه المخاطر الجيوسياسية سواء في منطقة الإندو- باسيفيك أو في أي بقعة على سطح الأرض، وذلك انطلاقاً من التقييم الصيني القائل بأن الولايات المتحدة تتبني «استراتيجية نووية غير عادلة، وتسعى لتحقيق مصالح أمنية غير مشروعة»، وهو ما لا يترك أي خيار أمام صانع القرار الصيني سوى اللجوء إلى زيادة إنتاج الرؤوس النووية.

2 – رفض الاحتواء:
تعتقد الصين أن المخاوف الأمريكية من الرؤوس النووية الصينية مبالغ فيها، وأن واشنطن قلقة ليس من الصواريخ النووية الصينية، بل من النمو الاقتصادي الصيني والمقبولية السياسية التي تحظى بها الصين في كل دول العالم، وتعتقد الصين بدلاً من مواجهة واشنطن لمخاوفها وتراجعها الحقيقي في المجال السياسي والاقتصادي فهي تسعى لاحتواء الصين عسكرياً، وأن هذا هو الدافع الحقيقي من وجهة نظر الصين في عداء واشنطن لبكين، ولهذا ترى القيادة الصينية أن من واجبها حماية نموها الاقتصادي وازدهارها التكنولوجي عبر توسيع وتطوير أسلحتها النووية.

3 – عنوان القوة الصينية:
تعتقد الصين أن الأسلحة النووية هي عنوان للقوة الصينية، وإذا كانت الصين هي القوة الثانية اقتصادياً ومرشحة لأن تكون الأولى بحلول عام 1949 فإن القوة الاقتصادية يجب أن يواكبها قوة نووية، لكن الأهم بالنسبة للصين أنها ترى في الأسلحة النووية «عنوان للقوة والردع واحتواء الأعداء وتقليل المخاطر».

4 سيناريوهات:
الأول.. الاكتفاء بالردع

وهو سيناريو يقول إن بكين سوف تكتفي بإنتاج 900 أو 1000 رأس نووي يجعلها قريبة جداً من عدد 1550 رأساً نووياً التي تنشرها كل من روسيا والولايات المتحدة وفق اتفاقية «نيوستارت» التي توصلت إليها موسكو وواشنطن في 2011، وجرى تجديدها لأول مرة 10 سنوات حتى 2021، وبعد تولي الرئيس جو بايدن تم تجديدها 5 سنوات فقط تنتهي في فبراير/ شباط القادم، وعرض الكرملين تمديد الاتفاقية لمدة عام واحد حتى يتم إجراء مفاوضات لتجديدها، والوصول إلى 1000 رأس نووي، وهذا من شأنه أن يمنح القيادة الصينية «ثقة أكبر» لمواجهة أي تهديات أو استفزاز نووي، خاصة في الملفات التي تتعلق بوحدة الأراضي الصينية في تايوان وشينجانغ والتبت، لكن هذا السيناريو يفترض أن الصين يجب أن تقلل من وتيرة إنتاجها الحالي من الرؤوس النووية وأدوات «المثلث النووي»، وعندما تصل الى 900 أو 1000 رأس نووي يمكن بعد ذلك أن تقوم بتجديد الرؤوس التي تتقادم أو التي تخرج فقط من الخدمة.

الثاني.. الند للند

يقوم على أن طموح القيادة الصينية ليس أقل من الولايات المتحدة وروسيا، وأن الصين سوف تمضي في زيادة وتيرة إنتاج رؤوسها النووية ليس فقط لتتساوى مع عدد الرؤوس التي تنشرها كل من روسيا والولايات المتحدة التي تصل إلى 1550 رأساً نووياً، بل قد تصل الصين لأبعد من ذلك ليكون لديها نحو 3750 رأساً نووياً ليتساوى ما لديها من رؤوس نووية بالأسلحة النشطة لدى واشنطن وموسكو سواء كانت رؤوساً جرى نشرها في القواعد العسكرية والغواصات والطائرات أو تلك الموجودة في المخازن. ووفق الحسابات الأمريكية والبريطانية فإن الصين يمكن أن تصل لهذا الهدف عام 2035، وفي حال تحقيق ذلك سيكون هذا التطور هو أبرز خطوات تحديث الجيش الصيني التي أعلن عنها الرئيس شي جين بينغ عام 2022 وتنتهي عام 2035، لكن هذا التحدي الذي يمكن أن ترفعه بكين في وجه واشنطن وموسكو يحتاج لأن تنتج بكين نحو 150 قنبلة سنوياً.

الثالث.. الهيمنة النووية

تملك الصين كل القدرات البشرية والتكنولوجية ليس فقط للتكافؤ النووي مع الولايات المتحدة وروسيا، بل يمكن أن تسعى «للهيمنة النووية»، بمعنى يمكن للصين أن تصبح هي «الدولة الأولى نووياً» سواء في عدد الرؤوس المنتشرة على منصات الإطلاق البرية والبرية والجوية أو في المخازن، بل ويمكن أن تتجاوز كل الرؤوس النووية الروسية التي على منصات إطلاق أو التي في المخازن أو حتى تلك الرؤوس النووية الاستراتيجية والتكتيكية. ووفق هذا السيناريو قد تواصل الصين زيادة وتيرة إنتاج القنابل النووية الى نحو 250 قنبلة سنوياً بما يجعها تتفوق في النهاية على إجمالي ما تملكه روسيا 5499، أو ما تملكه الولايات المتحدة وهو نحو 5270 رأساً نووياً.

الرابع.. الانضمام للاتفاقيات الدولية

وهو هدف لكل الدول النووية الغربية الثلاث وهي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وعجزت كل من الولايات المتحدة وروسيا عن تجديد «اتفاقيات تقييد السلاح الدولية» مثل اتفاقية «أي إن إف»، واتفاقية «السماوات المفتوحة»، واتفاقيات «الأسلحة التقليدية» بسبب رغبة الدول الغربية في ضم الصين إلى هذه الاتفاقيات، لكن الصين حتى الآن ترفض ذلك باعتبار أنها ما زالت بعيدة، ولديها عدد أقل من الحدود والسقوف النووية التي تتقيد بها الدول الغربية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى