هل حان الوقت ليحاسب العالم مرتكبي جرائم الحرب في دارفور؟
أعاد إعلان مدعي “الجنائية الدولية” كريم خان فتح تحقيق جديد في جرائم حرب وإبادة حديثة بغرب دارفور إلى الأذهان الاتهامات السابقة في مواجهة متهمين بالجرائم ذاتها لم تصل إليهم يد العدالة بعد لعدم تسليمهم للمثول أمام المحكمة الدولية على مدى 20 عاماً مضت، باستثناء متهم واحد سلم نفسه طوعاً من إحدى العواصم الأفريقية هو علي كوشيب الذي تجرى الآن محاكمته في مقر المحكمة في لاهاي. فهل كان لتلك المسيرة الطويلة من الإفلات من العقاب في جرائم دارفور طوال الفترات الماضية دور وإسهام في تكرار مأساة دارفور نفسها من جديد؟
تجدد المأساة
خلال إحاطة المدعي العام لـ”الجنائية الدولية” في تقرير غير عادي للمجلس حول مدى التقدم المحرز بواسطة المحكمة في ما يخص انتهاكات وجرائم دارفور على وقع تجدد المأساة السابقة ذاتها في الإقليم التي أحالها المجلس في ضوء تقرير لجنة التحقيق الدولية إلى المحكمة الجنائية بموجب قراره رقم 1593 في 31 مارس (آذار) 2005، وأحال بموجبه الوضع في الإقليم إلى المحكمة الجنائية مطالباً السودان بالتعاون بشكل كامل مع المحكمة.
إزاء ما تكشف في شأن العثور على مقابر جماعية تضم نحو 86 شخصاً يعتقد أن معظمهم من قبيلة المساليت غير العربية، أعلن المدعي لـ”الجنائية الدولية” أن مجلس الأمن الدولي والعالم أجمع باتا وجهاً لوجه أمام حقيقة تكرار التاريخ المروع ذاته الذي أدى قبل نحو عقدين من الزمن إلى فتح التحقيق الأول في شأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور.
وشدد خان على أن الوضع الأمني الحالي في السودان وتصاعد العنف والأعمال القتالية الجارية يشكلان مبعث قلق كبيراً، لا سيما بعد حصوله على شبكة واسعة من الاتصالات المرتبطة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المفترضة في السودان منذ بدء المعارك الأخيرة، منتصف أبريل (نيسان) الماضي، بين الجيش وقوات “الدعم السريع”.
خطر متعاظم
ولفت مدعي “الجنائية” إلى أن تعاظم خطر وقوع جرائم حرب جديدة بالسودان، وبخاصة في دارفور، يأتي بفعل الاستخفاف الواضح من قبل الأطراف المعنية بالتزاماتها، والذي يعود تاريخه إلى فترة طويلة مضت.
ورداً على تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” بتوثيقها مقتل ما لا يقل عن 40 مدنياً، بما في ذلك إعدام 28 فرداً في الأقل من قبيلة المساليت في مدينة مستري غرب دارفور على مشارف مدينة الجنينة، متهماً قوات “الدعم السريع” والميليشيات العربية المتحالفة معها بالحادثة، ومطالبتها المحكمة الجنائية التحقيق في أعمال العنف، أصدرت “الدعم السريع” بياناً نفت فيه ما وصفته بالمزاعم التي أوردها تقرير المنظمة، وأكدت رفضها أي اتهامات مسبقة من دون الوقوف على حقيقة ما جرى، مبينة أنها ستتعامل مع تلك المزاعم بجدية في ما يتعلق بأحداث غرب دارفور والتزامها بالتعاون مع أي لجنة تحقيق عادلة من جهات محايدة تشكل لهذا الغرض.
ووصف البيان ما حدث في منطقة مستري على وجه التحديد وغرب دارفور بشكل عام، ولا سيما مدينة الجنينة، بأنه صراع قبلي محض قديم ومتجدد، لم تكن قوات “الدعم السريع” طرفاً فيه، بل سبق أن حذرت من حدوثه في بيانات موثقة عند بداية الأزمة.
“الدعم” تنفي وتتهم
ونفت قوات “الدعم السريع” وجود تحالف بينها وبين أي ميليشيات في دارفور أو غيرها من المناطق، وأن معظم المجموعات العربية المنفلتة تتبع لاستخبارات القوات المسلحة وقد تم تسليحها وإعادة إدماجها مع قوات حرس الحدود، في 20 في أبريل الماضي، بقرار من القائد العام للقوات المسلحة، واتهمت تقرير “هيومن رايتس ووتش”، بالاستناد جزئياً إلى مصادر غير موثوقة والاحتواء على أخطاء واختلالات تتعلق بالبيانات والمواقع والتواريخ أدت إلى استنتاجات مضللة وتقارير غير دقيقة في وسائل الإعلام.
ووصف رئيس حركة جيش تحرير السودان حاكم إقليم دارفور أركو مني مناوي موقف المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ومنظمة حقوق الإنسان، بما في ذلك بيان حكومة الولايات المتحدة، بأنها كلها تدفع باتجاه وقف الانتهاكات ووضع حد للفوضى ووقف القتل المجاني العنصري الذي استمر نحو 40 عاماً في دارفور، وفي معرض ترحيبه بفتح تحقيق جديد في شأن ما حدث في غرب دارفور، لفت مناوي في تغريدة على حسابه في “تويتر” إلى أن قرار مجلس الأمن الدولي السابق بإحالة ملف دارفور إلى محكمة الجنايات الدولية ما زال صالحاً للاستخدام.
الإفلات والتكرار
في السياق، اعتبر المحامي المتخصص في القانون الدولي كمال الجزولي أن عملية الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة في دارفور سابقاً هي السبب الأساس في تكرار المآسي والجرائم والانتهاكات ذاتها مرة أخرى، ونوه الجزولي إلى أن فلسفة العقاب في القانون الجنائي قائمة بالأساس على ضمان ألا يكرر المجرم فعله الإجرامي مرة أخرى، فإذا لم يكن هناك عقاب فلن يكون هناك ضمان لعدم تكرار الجرم ذاته مرة أخرى. كما رحبت هيئة محامي دارفور وشركاؤها باتجاه الادعاء الجنائي بالمحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق جنائي في شأن جرائم الحرب المرتكبة بالسودان وفي ولاية غرب دارفور، مبدية في الوقت نفسه عدم رضاها عن الإجراءات السابقة المتخذة في شأن الجرائم المرتكبة في دارفور حول ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب، وقالت الهيئة إن الإجراءات والاتهامات صارت مقتصرة على بضعة أشخاص عجزت المحكمة عن إلقاء القبض عليهم باستثناء أحدهم قام بتسليم نفسه للمحكمة الجنائية الدولية ولا تزال إجراءات محاكمته تمضي ببطء.
خطوة منقوصة
وأوضحت الهيئة أنها تدرس كل الخيارات الأخرى في ضوء تجربة المحكمة الجنائية الدولية السابقة في شأن جرائم الحرب المرتكبة بدارفور، لضمان تحقيق الملاحقات الجنائية الفعلية، وحتى لا تصبح هذه الملاحقات عبارة عن تقارير دولية ومدخلاً لإفلات مرتكبي جرائم الحرب من العقاب.
ووصف عضو هيئة الاتهام في محاكمة الرئيس عمر البشير وقيادات انقلاب 1989 المحامي المعز حضرة عزم الادعاء العام بالمحكمة الجنائية الدولية على فتح تحقيق جديد بالتنسيق مع حقوق الإنسان الدولية في تكرار جرائم الإبادة الجماعية غرب دارفور، بأنه يشكل خطوة جيدة، لكنها تظل منقوصة ما لم تستصحب الانتهاكات التي وقعت منذ انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 حتى اليوم، باعتبارها أيضاً جرائم كثيرة تستدعي إجراء تحقيق في قتل أكثر من 220 من الشباب والشابات في التظاهرات السلمية التي جرت في الخرطوم ومناطق أخرى بالسودان.
ظاهرة مستفحلة
ولفت حضرة إلى أن الإفلات من العقاب يعد ظاهرة مستفحلة في السودان، منذ انقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989، وأصبح الإفلات هو السمة السائدة على رغم وجود أجهزة قضائية وعدلية، لكن تم تسييسها فباتت تعاقب من تشاء من المعارضين وتفلت من تشاء. وأضاف “المرة الأولى التي تدخل فيها المجتمع الدولي بأدواته الجنائية لإجراء تحقيق في شأن جرائم دارفور نتج منها تحويل بعض المتهمين إلى المحكمة الجنائية الدولية”، مشيراً إلى أن الإفلات من العقاب في السودان ليس مرتبطاً بجرائم دارفور وحدها، بل أيضاً في الوسط والشمال وغيرهما من المناطق، على رغم وجود انتهاكات جسيمة وقعت في هذه المناطق، ومنها الجرائم التي حصلت بعد حرب 15 أبريل الماضي، لذلك يجب أن يكون التحقيق شاملاً لكل مناطق السودان حتى تتحقق العدالة. وأكد حضرة أن الإفلات من العقاب في شأن جرائم دارفور السابقة وغيرها، شجع ويجعل المجرمين يكررون فعلتهم أكثر من مرة، لأنه لو كان هناك عقاب فعلي لما تجرأ المجرمون على ارتكاب مثل تلك الجرائم مرة أخرى.
العقاب والردع
شدد عضو هيئة الاتهام على أن الردع والعقاب يتضمنان جانبين أحدهما خاص، وآخر عام، وكلاهما يتكامل لتحقيق نظرية العدالة، بالتالي فإن عدم معاقبة الذين تسببوا في أحداث وفظائع دارفور وغيرها من المناطق سابقاً دفعهم لتكرار هذه الأفعال وهم مطمئنون بأن يد العدالة لن تطالهم، وإلا لما عادوا لمثل تلك الأفعال والجرائم للمرة الثانية.
وقدر عدد القتلى بالولاية، بحسب والي غرب دارفور السابق، بنحو 1200 قتيل، إضافة إلى أكثر من 3000 جريح، بينما قارب عدد المفقودين والنازحين 100 ألف شخص من مدينة الجنينة ومنطقة مستري ومناطق أخرى تقع على الحدود مع تشاد. وأفاد بيان لمكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في منتصف يوليو (تموز) الجاري، بأن من بين جثث المقابر الجماعية ما يعود لأفراد من قبيلة المساليت، مؤكداً امتلاكه معلومات جديرة بالثقة حول مسؤولية قوات “الدعم السريع” عما حدث، ونقل المكتب عن سكان محليين أنهم اضطروا إلى التخلص من الجثث، التي يعود بعضها لنساء وأطفال، في منطقة مفتوحة قرب مدينة الجنينة.
عنف وحصار
وكشف المكتب الأممي أيضاً عن أن بعض الأشخاص لقي حتفه نتيجة تعرضه لجروح لم يتمكن من تلقي العلاج لها خلال حصار مدينة الجنينة وموجة العنف والهجمات التي شنتها قوات “الدعم السريع” والجماعات المتحالفة معها، في أعقاب مقتل والي غرب دارفور السابق خميس عبدالله أبكر، منتصف يونيو (حزيران) الماضي، بعد وقت قصير من اعتقاله بواسطة قوات “الدعم السريع”.
ودان المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك بشدة قتل المدنيين والعاجزين عن القتال، معبراً عن شعوره بالفزع من الطريقة القاسية والمهينة التي عومل بها القتلى وعائلاتهم ومجتمعاتهم، في وقت لم تتضح الأعداد الفعلية لقتلى قبيلة المساليت خلال تلك الأحداث.
وتسببت الحرب المندلعة في الخرطوم، منذ منتصف أبريل الماضي، بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع”، في مقتل أكثر من 2800 شخص ونزوح أكثر من 2.8 مليون شخص، وسرعان ما انتقلت إلى إقليم دارفور ودفعت أكثر من مليون شخص للفرار، متخذة نمطاً من القتل لدواعٍ إثنية وعرقية، وسط مخاوف من انزلاق الإقليم كله نحو حرب أهلية.