هل تنجح فرنسا؟

كتب محمد صابرين, في الاهرام:
تمكنت فرنسا من إلقاء “حجر كبير” في المياه الراكدة الخاصة بالتسوية السياسية للقضية الفلسطينية، وحل الدولتين. واستطاع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوضوح أن يعيد الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى صدارة المشهد الدولي.
وأعلن ماكرون أنه سيعلن رسميًا اعتراف فرنسا بدولة فلسطين أمام الأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، وسبق لفرنسا أن أكدت أنها تريد إطلاق ديناميكية حقيقية لإعادة إحياء حل الدولتين منذ عدة أشهر، وها هي تنجح في ذلك فعلًا بإعلان رئيس الوزراء الكندي أنه سيعلن اعتراف كندا بالدولة الفلسطينية في سبتمبر المقبل أيضًا وأمام الأمم المتحدة؛ وبذلك، أصبحت دولتان من الدول الصناعية السبع الكبرى تعترفان رسميًا بالدولة الفلسطينية لأول مرة.
ويبذل ماكرون جهودًا قوية لإقناع رئيس الوزراء البريطاني ستارمر باعتراف بريطانيا بفلسطين، والذي يتعرض لضغوط من أعضاء حكومته للقيام بهذه الخطوة التاريخية.
وهنا، أتساءل: “هل يمكن لفرنسا أن تدفع بقية القوى السبع الكبرى إلى السير خلفها؟”.
ومثلما هو متوقع، رفضت أمريكا الخطوة الفرنسية، ونددت بها إسرائيل. وتسود حالة من الترقب في الأوساط الإقليمية والدولية مع قرب انعقاد المؤتمر الدولي الذي سيخصص لفلسطين خلال شهر سبتمبر 2025 في الأمم المتحدة، ويهدف إلى دفع حل الدولتين قدمًا.
وسوف يرأس المؤتمر الرئيس ماكرون بالمشاركة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بمقر الأمم المتحدة في نيويورك. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد قررت، يوم 3 ديسمبر 2024، الدعوة لهذا المؤتمر في إطار مراجعتها السنوية للقضية الفلسطينية.
وسبق أن أعلن ماكرون، في 9 أبريل 2025، أن “هدفنا، مع السعودية، من خلال رئاسة هذا المؤتمر، إنهاء حركة الاعتراف المتبادل من قبل عدة دول”.
وأشارت صحيفة “لوموند” إلى أن فرنسا أكدت أنها تريد هذه المرة إطلاق ديناميكية حقيقية لإعادة إحياء حل الدولتين، وجذب اهتمام دول أخرى بهذا الحل.
وجدير بالذكر أن العديد من الرؤساء الفرنسيين السابقين، من نيكولا ساركوزي إلى فرانسوا هولاند، التزموا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، دون أن تتحقق أي من هذه الوعود.
ولكن هذه المرة، تعرب باريس عن قناعة أكبر بهذا الحل، وترى أنه البديل الوحيد للفوضى الحالية، خاصة مع دعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لضم غزة ورغبته في طرد السكان الفلسطينيين لتحويلها إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”.
وفي السياق ذاته، ترحب فرنسا بخطة إعادة الإعمار التي اعتمدتها جامعة الدول العربية، يوم 4 مارس 2025، بمبادرة من مصر.
ومن بين 193 دولة عضوًا في الأمم المتحدة، تعترف 148 رسميًا بدولة فلسطين. وفي مايو 2024، خطت أيرلندا والنرويج وإسبانيا هذه الخطوة، ثم تبعتها سلوفينيا في يونيو من ذات العام.
وتأمل باريس في إقناع المزيد من الدول الكبرى بالاعتراف بدولة فلسطينية، مقابل تقديم ضمانات أمنية قوية لإسرائيل.
وبالمقابل، يجري العمل على دفع الدول العربية أو الإسلامية لتطبيع علاقاتها مع الدولة العبرية.
وفي الوقت نفسه، أصرت السلطات الفرنسية على إصلاح السلطة الفلسطينية وتجديدها، في وقت تشهد فيه غزة، الخاضعة لحكم حماس، دمارًا شبه كامل، وتضعف السلطة يوميًا في الضفة الغربية المحتلة، التي تخنقها قوات الاحتلال والمستوطنون الإسرائيليون.
وتحت ضغط من الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية، وافق رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس (89 عامًا)، يوم 26 أبريل 2025، على تعيين نائب لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية تحضيرًا لخلافته.
وفي فبراير 2025، واستجابة لطلب أمريكي قديم، ألغت رام الله مخصصات عائلات الأسرى والشهداء، وهي أموال عامة كانت تُدفع لعائلات المعتقلين أو الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل، وهي مخصصات تعدها تل أبيب “تحريضًا على الإرهاب”.
وذكرت “لوموند” أن هاتين الخطوتين تعدان تقدمًا من وجهة نظر باريس، التي تصر كذلك على نزع سلاح حماس، وتدعم خطة لإخراج قادة الحركة من غزة، بمساعدة مصر وقطر وتركيا؛ الدول الوحيدة القادرة على التوسط من أجل ابتعاد سلمي للحركة الإسلامية عن إدارة غزة، قبل التفاوض على بنية أمنية جديدة للقطاع.
ونقلت عن مصدر دبلوماسي قوله إنه يجب دعم سلطة فلسطينية مجددة ومعززة لمواجهة الخطاب الإسرائيلي الذي يقول إن الاعتراف بفلسطين يعني الاعتراف بدولة تابعة لحماس.
وعلى الجانب العربي، أدت اتفاقيات أبراهام في عام 2020 إلى اعتراف الإمارات والبحرين والسودان والمغرب بإسرائيل، لتنضم بذلك إلى مصر (1979) والأردن (1994).
وذكرت “لوموند” في تقريرها أن السعودية ظلت حذرة ولم تنضم رسميًا إلى المبادرة، رغم بدء مفاوضات مع إسرائيل، كانت مشروطة باتفاق دفاع مشترك مع واشنطن والحصول على تكنولوجيا الطاقة النووية المدنية.
وأكدت “لوموند” أن الرياض جمدت هذه المحادثات مع اندلاع الحرب على غزة، في أعقاب هجوم حماس على إسرائيل يوم 7 أكتوبر 2023، والرد الإسرائيلي المدمر على القطاع. واليوم، تشترط الرياض أي اعتراف رسمي بوجود مسار موثوق، ولا رجعة فيه، لإنشاء دولة فلسطينية.
وفي الوقت الحالي، صرح مصدر دبلوماسي فرنسي للصحيفة بأنه لن يكون هناك اعتراف كامل بإسرائيل من جانب السعودية خلال مؤتمر نيويورك، لكن سترسل إشارات من الرياض، وذلك بشرط إعلان وقف إطلاق النار في غزة ورفع الحصار الإنساني، مشيرًا إلى أن المملكة قد تستخدم نفوذها لدفع دول عربية أو إسلامية أخرى إلى الانخراط في هذا التوجه.
وتثير هذه الخطوة معارضة عارمة من إسرائيل، ويرى نتنياهو أن ماكرون “يرتكب خطأ جسيمًا بمواصلته الترويج لفكرة دولة فلسطينية في قلب أرضنا، دولة تطمح فقط إلى تدمير إسرائيل”.
وفي المقابل، وصف مصدر دبلوماسي فرنسي موقف الحكومة الإسرائيلية الحالية بأنه “بالتأكيد غير داعم”، لكنه قال إن “الأمر يتعلق أيضًا بإقناع الإسرائيليين أن ذلك قد يكون في مصلحتهم على المدى الطويل”.
ولكن بالتأكيد أن إقناعهم، مثلما يرى الفرنسيون، ستكون “مهمة صعبة” في ظل استمرار الائتلاف اليميني المتطرف الحاكم في إسرائيل بحصار قطاع غزة.
ويبقى أن هذه الخطوة، رغم جسارتها، ربما لا تكفي، فقد بات واضحًا أن الطريق الوحيد هو فرض عقوبات دولية، وعزل إسرائيل كدولة عنصرية منبوذة مثل جنوب إفريقيا، ومحاكمة قادتها عن جرائم حرب غزة.
ولكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وها هو ماكرون بدأ خطوة مهمة، ويتعين على العالم العربي أن يدعم الخطوة الفرنسية بخطوات أكثر قوة، ويتوقف عن منح نتنياهو هدايا مجانية.




