كتبت ماري ديجيفسكي في “اندبندنت عربية” ما يلي: من المنتظر انعقادها في مارس المقبل وستكون اللقاء الرسمي الأول لرئيسي الدولتين منذ أكثر من 5 سنوات.
لطالما كان توجيه اللوم إلى فرنسا الخيار التقليدي المتوقع من حكومة المملكة المتحدة متى ما وجدت نفسها في مأزق. كذلك وجد رؤساء الحكومة المتعاقبين فرصاً عدة لاستخدام هذه الوسيلة الموثوقة في الأعوام الأخيرة.
فمن فترة المفاوضات الطويلة والشاقة التي سبقت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، حيث كان حينها كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي شخصية فرنسية، إلى الصعوبات التي واجهت المصادقة على الاتفاق الذي طرح على البرلمان [البريطاني]، والخلافات التي تلت ذلك حول القوارب الصغيرة المحملة باللاجئين التي تقطع القنال الإنجليزي، وصولاً إلى الخلافات حول كيفية التعامل مع روسيا بعد غزوها لأوكرانيا وقضايا كثيرة أخرى.
لكن وعلى رغم كل ما ذكر آنفاً، إلا أنه من المذهل أن تكون القمة بين المملكة المتحدة وفرنسا المقرر عقدها في مارس (آذار) المقبل هي الاجتماع الرسمي الأول الذي يضم زعيمي البلدين منذ أكثر من خمسة أعوام.
اللقاء الأخير الذي جمع بين قادة البلدين كان في يناير (كانون الثاني) 2018، عندما استضافت رئيسة الوزراء حينها تيريزا ماي الرئيس إيمانويل ماكرون في [الكلية الحربية الملكية] في ساندهيرست، ومجرد مكان اللقاء ربما يكفي للإشارة إلى ما تركزت عليه أعمال تلك القمة. لقد كانت هناك اجتماعات ثنائية أيضاً ضمت الجانبين على هامش اجتماعات أخرى ــ آخرها كان اللقاء التصالحي بين رئيسة الحكومة السابقة ليز تراس والرئيس إيمانويل ماكرون خلال اجتماع موسع لمهرجان “pow-wow” القادة الأوروبيين الذي عقد في براغ في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وكان ذلك بعد أسابيع فقط على حادثة رفض تراس بشكل فاضح الالتزام حيال مسألة ما إذا كانت فرنسا دولة صديقة أو عدوة.
هناك أسباب كثيرة بالطبع لهذه الفترة الزمنية الطويلة التي حالت دون عقد قمة جديدة بين الجانبين، ومن أبرزها إجراءات حظر السفر التي فرضت من فترة لأخرى إبان جائحة كورونا، فيما يمكن القول إن التخبط السياسي الذي ساد “داونينغ ستريت” [إبان عهد جونسون] كان سبباً آخر لذلك. ولا ندري إن كانت وراء ذلك أيضاً الهواجس المعلنة التي كان اتخذها ماكرون من بوريس جونسون في شأن عدم أهليته للحكم، خصوصاً أنه كان نعته بـ”المهرج”. لكن الحقيقة المرة، وهي حقيقة محزنة فعلاً، أن الجارين اللذين تجمعهما مصالح مشتركة كثيرة ولديهما الكثير لمناقشته لم يجتمعا في قمة على هذا المستوى منذ خمسة أعوام. وكما كان الإهمال أبلغ تعبير عن الحال التي وصلت إليها هذه العلاقات، نرى الآن الحماسة الواضحة من جانب المملكة المتحدة كتعبير آخر لمسعى فتح فصل جديد في العلاقات.
دليل آخر على هذه الحماسة جاء بالتزامن مع الكشف، عشية إعلان القمة، عن أن باريس ستستضيف أول زيارة دولة للملك تشارلز الثالث في نهاية مارس المقبل. ومن المعلوم أن الرئيس ماكرون كان وجه الدعوة إلى الملك خلال جنازة تشييع الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، لكن موافقة الملك المبكرة على هذه الدعوة تحديداً، بدلاً من الدعوات الأخرى التي لا بد من أنها وجهت إليه أيضاً، لا بد من أنها منحت الضوء الأخضر من قبل رئاسة الحكومة من دون شك، وهذا يشير إلى أن إعادة إطلاق العلاقات مع فرنسا ووضعها على سكة التسوية أصبحت ضرورة أساسية وحتى أولوية طارئة لهذه الحكومة الحالية.
ليس من الصعب أيضاً تفهم أسباب هذه البداية الجديدة. فتحسين العلاقات مع فرنسا يمكن اعتباره مفتاحاً لعلاقات أفضل مع الاتحاد الأوروبي بشكل عام، وهو أمر ربما يؤدي إلى خفض، إن لم نقل حل كثير من الأمور العالقة بشكل فاعل. ففرنسا هي الدولة التي تتركز عندها معظم مصادر القلق البريطاني الحالية، العملية منها والسياسية. ومهما كان حجم طموح بريطانيا، الدولة التي لم تعد ضمن الاتحاد الأوروبي، ورغبتها في لعب دور على المستوى العالمي، من المنطقي جداً لهذه الدولة أن تبدأ بإصلاح الجسور الأقرب إليها من خلال جهود دبلوماسيتها في حقبة ما بعد “بريكست”.
اقتراح عقد قمة بين البلدين كان قد تم التوصل إليه، ومن حيث المبدأ، عندما اجتمعت رئيسة الحكومة السابقة ليز تراس مع الرئيس ماكرون في براغ، ولكن الاقتراح تم تجديده خلال حديث جرى بين ماكرون وسوناك بعد تولي الأخير منصب رئاسة الوزراء. أما المتوقع من القمة في الأقل من وجهة النظر البريطانية، فيبدو أنه قد تم توسيع مروحة ملفاته لتتعدى الملفات التقليدية القديمة المخصصة للقمم الدفاعية الفرنسية- البريطانية.
أما عن جدول الأعمال، كما حدده الجانبان، فهو يشتمل على كثير من المواضيع ومنها “التعاون في عدد كبير من القضايا بما فيها الأمن والمناخ والطاقة والاقتصاد والهجرة والأهداف المشتركة للسياسة الخارجية”، وهو ما يشير إلى أن الطموحات لهذه القمة تخطت بشكل كبير السقف الذي كان وضع لها عندما تم اقتراح القمة في البداية ــ والذي يصل إلى حد يمكن اعتبارها قمة لإعادة إطلاق العلاقات بين فرنسا والمملكة المتحدة.
من البديهي أن يكون موضوع القوارب الصغيرة التي تعبر القنال الإنجليزي [المحملة بالمهاجرين غير الشرعيين] طاغياً على ملف محادثات الهجرة، ليس لأن الأمر هو واحد من الأولويات الخمس التي أعلن عنها رئيس الوزراء ريشي سوناك، بل لأن أي نجاح قد تحققه الجهود التشريعية في المملكة المتحدة من شأنه أن ينعكس إيجاباً على المصالح الفرنسية أيضاً، خصوصاً إذا أدى ذلك النجاح إلى تراجع حجم المخيمات الساحلية [للمهاجرين] أو حتى تراجع أعداد الأشخاص الساعين إلى دخول الأراضي الفرنسية بشكل غير شرعي.
بغض النظر عن كمية الأموال التي قد تنفق بغرض تأمين السيطرة الشرطية على الساحل الفرنسي الطويل وحده، فإن ذلك لن يكون مجدياً لوحده. أما ملف الطاقة، فقد يكون المجال الأكثر انتعاشاً لزيادة االتعاون بين الطرفين، وإمكانية بناء فرنسا والمملكة المتحدة على قدراتهما المشتركة وقربهما الجغرافي وهو ما يعتبر ميزة إضافية مهمة. كانت فرنسا الدولة الوحيدة التي نجت من صدمة عزوف دول الاتحاد الأوروبي عن واردات الغاز الروسي، بسبب اعتمادها أساساً على الطاقة النووية، وخبراتها في هذا المجال بدأت بالفعل ردم هوة النقص الناتجة من قرار بريطانيا إلغاء مشروع تطوير للطاقة النووية مع الصين. المملكة المتحدة من جهتها، ربما يكون لديها ما تقدمه في مجال تطوير مصادر الطاقة النظيفة.
أما مجال الدفاع والأمن، فكان أحد أعمدة العلاقات البريطانية – الفرنسية منذ إعلان سانت مالو عام 1998. هذا الإعلان كان تم الاتفاق عليه بين رئيس الحكومة السابق توني بلير والرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي يمكن اعتباره نقطة متقدمة للتعاون عبر القنال الإنجليزي، ودليلاً على أنه يمكن للعقول الفرنسية والبريطانية أن تلتقي [وتتعاون]. لكن تركيز الجهود على القضايا الدفاعية المشتركة لطالما كان أمراً يسهل قوله، لا فعله. فمنذ انطلاق عهده الرئاسي، يحاول ماكرون أن يروج لمبدأ تشكيل قدرات دفاعية أوروبية مستقلة، والمقصود هنا استقلالها عن “الناتو”، وهو نقطة خلافية، خصوصاً مع المملكة المتحدة، حتى قبل حدوث “بريكست”. لكن الحرب في أوكرانيا أدت إلى تهميش أي طموح أوروبي لإقامة “استقلالية استراتيجية” في الأقل في المرحلة الحالية.
لكن على رغم الوحدة الظاهرة ضمن “الناتو” وخارجه والتعبير العلني عن الدعم لأوكرانيا، لطالما كانت مواقف المملكة المتحدة وفرنسا متباعدة في ما تعتبرانه المساعدة العسكرية التي يجب توفيرها [لأوكرانيا] ولأي درجة يسعيان إلى المحافظة على تواصلهما مع الجانب الروسي. على رغم أن الهوة في المواقف بدأت تضيق مع استمرار تلك الحرب، فإن الانقسامات يمكن لها أن تتسع مجدداً إذا لاح في الأفق سبيل لوقف هذه الحرب. إن الخلاف نفسه، ربما ينطبق على العلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي، الذي ربما يفشل طموحات المملكة المتحدة، إذا رأت أن تحسين العلاقات مع فرنسا هو خطوة متقدمة نحو تحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ككل.
لو كتب للمملكة المتحدة أن تتخطى التبعات المرّة التي خلفها خروجها من الاتحاد الأوروبي في بروكسل، فمن المحتمل أن يتطلب الأمر أكثر من مجرد عملية تقارب مع فرنسا. ولكن ربما من شأن ذلك أن يكون البداية. وهنا لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن مجرد الإعلان عن قرار عقد القمة، بما تحويه من أجندة واسعة من القضايا على جدولها، يشكل تقدماً مهماً، ولو كان ذلك فقط من باب أنه بمجرد الإعلان عن انعقاد القمم فإنه محظور فشلها. وأنا يمكنني أن أتذكر فشلين سابقين فقط [لقمم تم الإعلان عنها] في هذا الإطار في التاريخ الحديث، هما القمة بين الرئيس رونالد ريغان والرئيس ميخائيل غورباتشوف في العاصمة الآيسلندية ريكيافيك حول خفض مستويات التسلح النووي عام 1986، وقمة الرئيس ترمب والرئيس بوتين في هلسينكي في فنلندا عام 2018، لما افتقره ترمب حينها من دعم داخلي.
لا نعلم إذا كان منطقياً أن تعقد قمتان على أعلى المستويات الدبلوماسية بين المملكة المتحدة وفرنسا ــ قمة ماكرون وسوناك، وزيارة الملك الرسمية إلى فرنسا ــ وتفصل بينهما ثلاثة أسابيع، هو سؤال ربما يطرح تساؤلات بريطانية وفرنسية. لكن أي قلق على هذه الجبهة فقد تم تخطيه بوضوح بعدما وصف مسؤول فرنسي القمة بأنها تهدف إلى “كسر الجليد” استباقاً لزيارة الدولة الرسمية [للملك تشارلز]. وعلينا أن نأمل في أن لا يجد الملك [في وقت لاحق] نفسه وأنه تم استدعاؤه هو، لكسر أي جليد قد تكون حديثاً [في حال إخفاق القمة].
لكن الرهان على الفشل ضئيل إلى حد كبير. إن القمم عادة ما تكون منظمة ويتم التخطيط لكل حرف وحركة تتخللها حتى لأصغر جوانبها. أما عن الشخصيتين، ريشي سوناك وإيمانويل ماكرون، فيمكن اعتبارهما بطرق شتى حليفين طبيعيين، مع خلفية مهنية مشتركة ونهج تكنوقراطي في التعامل في إدارتهما. وسيكون من السهل جداً أن يجدا نقاطاً مشتركة مقارنة بأي زعيم بريطاني أو فرنسي منذ، ولنقل في الأقل، العلاقة بين بلير وشيراك. إنها مقارنة، لكن لديها خطوطها الحمر الخاصة بها.
فخلال خمسة أعوام، تم تدمير ذلك التفاهم الودي تماماً بسبب الحرب في العراق [كانت فرنسا أشد المعارضين للحرب التي شاركت فيها بريطانيا]، التي أدت إلى انهيار العلاقات البريطانية- الفرنسية إلى أدنى مستوياتها في تاريخنا الحديث. لكن في النهاية يتغلب القرار الشخصي والمصالح الوطنية على ما عداهما، وبريق أي قمة ناجحة، وبغض النظر عن مدى النوايا الطيبة التي تحيط بها، قد يدوم لفترة طويلة.
إن الآراء الموجودة في هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبتها.