هل تعمل تركيا لاستعادة معادلة “صفر مشكلات”؟
كتبت سميرة المسالمة, في “العربي الجديد”:
من أساسيات سيادة الدول حقّ حكوماتها في انتهاج أيّ سياسة تراها تخدم مصالحها، خاصّة إذا كانت هذه المصالح لا تتعارض مع إرادة مواطنيها، فكيف إذا كان الحديث عن دولةٍ تملك مقوّمات القوّة كلّها، المدنية منها والعسكرية، كما الحال مع تركيا التي تقدم بها نفسها أمام شعبها، وأمام المجتمع الدولي، ما يعني أنّ علاقاتها الدولية، وقربها أو بعدها من منابع التوتّر المحيطة بها مرتبط بحسابات منافعها، وليس بما يُرضي أو يُخفّف أعباء (ومظلوميات) شعوب أخرى، لجأت إليها، أو ساندتها في ثوراتها، وهذا ينطبق كثيراً على السوريين الذين باتوا بلا دولة، أو خارج ما يُفترَض أنّها دولتهم، مثلما باتوا بلا مُعارَضة يجمعون على أنّها تمثلهم في ثورتهم ضدّ نظام الرئيس بشّار الأسد، تحمل همومهم وتعمل وفق ما تقتضيه أهدافهم، وليس وفق ما تفرضه عليها الدولةُ المضيفةُ لهم في إسطنبول.
وإذا كانت معظم أطراف المُعارَضة سلّمت بموقف تركيا المُسانِد ثورة السوريين (2011)، فإنّ هذا لا ينفي أيضاً شعورهم بأنّ تلك المساندة تأرجحت بين حين وآخر، حتّى باتت في خانة الشكّ، وذلك بسبب السعي التركي الدؤوب للعودة بعلاقاتها مع الأسد إلى ما كانت عليه قبل الثورة، ومن هنا يمكن الحديث عن أطوارٍ متعدّدة، ومتناقضة، في سياسات تركيا للعقدَين الماضيَين إزاء السوريين، إذ ارتبطت بعلاقات وثيقة مع نظام بشّار الأسد، في العقد الأول من حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة زعيمه رجب طيّب أردوغان، في حقبته رئيساً للحكومة (2003 ـ 2014)، لكنّ هذه العلاقة اهتزّت وانقلبت رأساً على عقب بعد اندلاع الثورة السورية، وتحديداً بعد انتخاب أردوغان رئيساً، إذ ساندت تركيا الثورة السورية، بحيث باتت العلاقة بين النظامَين السوري والتركي عدائيةً تماماً، في العقد الماضي.
لم يكتمل العقد الأول من الثورة قبل أن يشهد نوعاً من النكوص في الدور التركي الداعم لها ممثّلاً بحلف أستانة
بيد أنّ تركيا في تلك المرحلة لم تكن دولةً تساند الثورة السورية فحسب، إذ كان دورها أكبر من ذلك بكثير، فهي التي لعبت الدور الأبرز والأكثر تأثيراً في التحكّم بمسارات الثورة، وخصوصاً في اتّجاه العسكرة والأسلمة والارتهان للخارج، بحكم نفوذها. وقد استمدّت تركيا قدرتها في التأثير في الصراع السوري من أنّها دولةٌ إقليميةٌ قويّةٌ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، تمتلك حدوداً شاسعةً مع سورية في الشمال، وهي الدولة التي استقبلت أكبرَ عددٍ من اللاجئين السوريين. ويمكن القول إنّ رغبة معظم السوريين باللجوء إليها مبنيةٌ أيضاً على خلفيات دينية وثقافية مشتركة، ثمّ هي التي فتحت أراضيها قواعدَ للفصائل العسكرية السورية المُعارِضة، وكذلك لهيئات المُعارَضة السورية، السياسية والخدمية. إلّا أنّ العقد الأول من الثورة لم يكتمل قبل أن يشهد نوعاً من النكوص في الدور التركي الداعم لها، وهو ما تمثّل بحلف أستانة (2017)، الذي ضمّ روسيا وإيران، شريكي النظام، إلى تركيا، بُعَيْد التدخّل العسكري الروسي المباشر في سورية (سبتمبر/ أيلول 2015). وقد أثّر هذا التحالف في إثارة شبهات حول سلامة الدعم التركي للثورة السورية، إذ لم يكن مفهوماً كيف يمكن لها أن تدعم الثورة، في حين تذهب إلى التحالف مع شريكين للنظام يقاتلان إلى جانبه الشعب السوري.
في المحصّلة، حصل مع هذا التحالف نوعٌ من استدارةٍ تركيةٍ، إذ باتت مباحثات أستانة، التي تشارك فيها تركيا وفرضتها على المُعارَضة السورية الضعيفة، واجهةً للتحكّم بمسارات الثورة السورية، وباتت اتفاقيات خفض التصعيد بمثابة اتّفاقيات لتقليص ما سمِّي “المناطق المُحرّرة”، التي كانت تحت سيطرة المُعارَضة، التي تسقط تباعاً في يدّ النظام، وهو ما حصل في الجنوب، وفي الوسط، وفي حلب وما حولها؛ باستثناء إدلب، التي سُلِّمت بطريقة أو بأخرى إلى جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً). الاستدارة التركية تمثّلت أيضاً بأخذ الفصائل العسكرية السورية الموالية لها للتصارع مع قوّات حزب الاتحاد الديمقراطي (بي واي دي)، أيّ أنّها استخدمت السوريين في مواجهة الأكراد، لحماية حدودها ممّا تدّعي أنّه يُهدّد أمنها القومي في الشمال السوري.
ومنذ أشهر، بات الرئيسُ التركي يدعو نظيرَه السوري إلى لقاء مشترك، في استدارة أخرى مفاجئةٍ وغيرَ مفهومةٍ، ما وضع المعارضة السورية أمام أسئلة لم تُقدّم لهم تركيا، التي ترعاهم، إجابات عنها، فما الذي يمكن لبشّار الأسد أنّ يُقدّمه لأردوغان بعد 13 عاماً من الحرب؟ وما هي مصلحة تركيا في هذا التقارب مع رئيس معزول ومُعاقَب دولياً؟ وماذا عن موقفها من مئات آلاف السوريين المُعارضين له؟ وهل تكفي التطمينات الدبلوماسية لأعضاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية؟ وهل يقبل الأسد التعامل مع دولة تحتضن مُعارَضته، وتُحرّض عليه؟ أمّ أنّ عليهم أن يعتبروا ممّا حدث لمُعارِضين من دولٍ أخرى قُنّن إعلامهم ونشاطاتهم؟
يحاول أردوغان سحب ملفّ اللاجئين السوريين من أيدي أحزاب المُعارَضة على أبواب انتخابات تركية قادمة
ربّما تكمن الإجابات في الوضع الداخلي لتركيا، ويتعلّق بمشكلة الوجود السوري، الذي بات مرفوضاً من كثيرٍ من الأوساط الشعبية، وهو الملفّ الذي يحاول أردوغان سحبه من أيدي أحزاب المُعارَضة على أبواب انتخابات تركية قادمة، لا سيّما مع تصاعد الاحتكاكات ذات الطابع العنصري، التي تستهدف اللاجئين السوريين في تركيا. ولعلّ أسهل ما يمكن إلصاقه من تهم على خلفيات الوجود السوري، أو سياسات الدولة برئاسة أردوغان تجاهه، هو ما تواجهه تركيا من متاعب أو تحدّيات كبيرة، أهمّها التحدّي الاقتصادي مع هبوط الليرة التركية، وتراجع مُعدّلات النمو، وتفاقم البطالة، وهو ملفّ تعمّدت المعارضة لأردوغان التركيز عليه، فبناءً عليه يمكن للناخبين الأتراك تحديد اتّجاهات أصواتهم، ما يجعل هذه النقلة مفهومة، أو يمكن القول إنّ هذا الانقلاب على الواقع في سياسات حزب العدالة والتنمية الحاكم، ليس فقط لجهة رغبته في التقارب مع النظام السوري وحسب، بل في سعيه من جديد إلى تحقيق معادلة “صفر مشكلات”، التي روّجها قبل ثورات الربيع العربي، وانخراط تركيا في أزمات المنطقة جميعها، وهو ما يتطلّب إعادة رسم سياساته مع دول الإقليم والعالم، وعلى وجه الخصوص مع الدول العربية.