رأي

 هل تستطيع دول الخليج التوسط بين أميركا وإيران و”إسرائيل”؟

كتب حسن الحسن وإميل حكيم, في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية:

يجب على دول الخليج استخدام كلّ ما لديها من نفوذ في واشنطن وطهران وتلّ أبيب لإخراج المنطقة من حالة الحرب فمستقبلها يعتمد على ذلك.

في وقت سابق من هذا العام، كانت دول الخليج العربي في أوج ازدهارها، حين امتلأت خزائنها بالأموال جراء أزمة الطاقة التي أعقبت جائحة فيروس كورونا، وجددت دورها كجهة راعية لأسواق النفط العالمية، مثل قطر الموثوق بها كمصدر للغاز الطبيعي المسال.

وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، نجحت دول الخليج في إدارة تنافس القوى العظمى بين الصين وروسيا والولايات المتحدة بمهارة. وأدارت بنجاح علاقاتها مع منافسيها الإقليميين، من ضمنهم إيران وتركيا. وفي أوّل رحلة دولية دشّنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الثانية كانت إلى السعودية وقطر والإمارات. وبدا أنّ هذه الدول من بين شركاء الولايات المتحدة القلائل الذين نجحوا في التعامل مع ترامب من خلال إبرام صفقات ضخمة معه بنحو تريليون دولار، متصدّرة عناوين الصحف مع مراعاة مصالح عائلته التجارية بهدوء.

وعلى مدى 14 السنة المقبلة فازت دول الخليج العربية بصفقات أسلحة ضخمة، وضمانات بالوصول المتميز إلى التكنولوجيات الأميركية المتقدمة، ووعود بأنّ الولايات المتحدة سوف تلتزم بنهج عملي تجاه الشرق الأوسط يأخذ في الاعتبار مصالح هذه الدول التي تبدو في وضع جيد يسمح لها باستغلال ثرواتها ومواردها من الطاقة وموقعها الجغرافي المهم للانتقال إلى مرحلة ما بعد النفط، مرسّخة مكانتها بالفعل كمراكز مالية ولوجستية، لديها طموحات لتعزيز قدراتها الناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي التي يفترض تطويرها شراكات مع مؤسسات أجنبية لاختبار ما هو مقبول سياسيا في عصر التنافس بين القوى العظمى. لكن، الآن يتوجب على هذه الدول أن تتصدّى للعواقب المباشرة وطويلة الأمد لسلسلة من الأحداث المروّعة التي كانت حذرت منها الشركاء الغربيين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.

لقد توقفت حرب ضارية استمرّت 12 يوماً بين إيران و”إسرائيل” قبل نحو شهرين، شنّت خلالها الولايات المتحدة غارات جوية واسعة على منشآت نووية إيرانية، وردت إيران بوابل من الصواريخ الباليستية التي أضاءت سماء قطر ليلاً خلال قصف إحدى كبرى القواعد العسكرية الأميركية. وقد راهنت حكومات قطر والسعودية والإمارات على ترامب جزئياً على أمل أن ينهي الصراع في المنطقة، لكنّ هذا الرهان فشل بضراوة، كاشفاً نقاط الضعف السياسية والأمنية لهذه الدول، كما أنّ الوصول إلى ترامب لا يعني دائماً التأثير على سياساته.

على الرغم من أنّ الضربات الأميركية والإسرائيلية قد أضعفت المنشآت النووية الإيرانية، إلّا أنّ الحرب ستعزز على الأرجح عزم إيران على امتلاك رادع نووي يحميها من أيّ هجوم مستقبلي، ممّا يمهد الطريق لجولات أخرى من الصراع. كذلك، أظهرت طهران استعدادها وقدرتها على نقل المعركة إلى جيرانها عند تعرضها لهجوم، وهذه لمحة عن خيارات التصعيد المتاحة للجمهورية الإسلامية.

الخطر الحالي
حثّت دول الخليج في الماضي الولايات المتحدة للقضاء على البرنامج النووي الإيراني، وناهضت الدبلوماسية النووية مع طهران خلال إدارتي أوباما وترامب الأولى، وهي عارضت الاتفاق النووي لعام 2015، لكن التطورات الأخيرة غيّرت حسابات هذه الدول، وبدأت تشكك في التزام الولايات المتحدة بدعم النظام الأمني الإقليمي خاصة وأنّ ترامب في ولايته الأولى عام 2019 رفض بعد هجوم إيراني على منشآت النفط السعودية، حماية السعوديين أو الرد بالقوة العسكرية. كما أنّ تقديم الولايات المتحدة غطاء عسكرياً وسياسياً غير محدود لـ”إسرائيل” يفاقم إحباط قادة دول المنطقة.

عدم موثوقية واشنطن دفعت هذه الدول لتدبير عملية تقارب مع إيران. وقد توّجت جهود الرياض باتفاق بوساطة صينية لتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران في العام 2023. ورغم أنّ مظاهر التوافق منذ ذلك الحين كانت في الغالب للعرض، إلّا أنّه لا يمكن إنكار أنّ العلاقات الإيرانية السعودية أفضل الآن من أيّ وقت مضى خلال العقدين المنصرمين.

ومؤخراً، أدّى هذا التقارب إلى اختيار معظم دول الخليج العربي عدم المشاركة في حملة تقودها الولايات المتحدة ضدّ الحوثيين حلفاء إيران في البحر الأحمر واليمن.

ولم يتزعزع هذا التوازن إلّا بعد الضربات الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية، ورد طهران بمهاجمة منشآت عسكرية أميركية تقع داخل قاعدة قطرية كبرى، وهي النتيجة التي حاولت دول الخليج منعها من خلال إصرارها المستمرّ على عدم استخدام الولايات المتحدة للقواعد أو لمجالها الجوّي في هجومها على إيران.

وينبغي الآن على دول الخليج أن تسعى للتوسط لإبرام اتفاق دائم بين إيران والولايات المتحدة. وقد أصبحت الآن أكثر استعداداً لقبول اتفاق يحد من البرنامج النووي الإيراني، ولا يحرمها بالضرورة من القدرة على تخصيب اليورانيوم لأغراض البحث الطبي أو احتياجات البلاد من الطاقة.

لكن طموحات “إسرائيل” الإقليمية الجديدة، والتسهيلات الأميركية الواضحة لها تمثل الآن التهديدات الرئيسية للمصالح الجوهرية لهذه الدول في الاستقرار الذي تحتاجه لتصدير الوقود الأحفوري، والسلام الإقليمي الذي تسعى إليه من أجل تحويل اقتصاداتها نحو مستقبل ما بعد النفط. كما أنّ أيّ اضطراب دائم في حركة النقل البحري بسبب تجدد الصراع سيجعل من الصعب نقل النفط والغاز، بينما أنّ أيّ هجوم إيراني مباشر على بنيتهم التحتية ومدنهم سيشوه صورتهم الأمنية واستقرارهم، ويضعف من جاذبيتهم للمستثمرين والشركات متعددة الجنسيات والسياح، مع أنّه سيُسبب أيضاً آثاراً جيوسياسية سلبية لإيران لكنّها لا تقلل من وطأة العواقب المحتملة على دولهم.

لقد أدانت جميع دول الخليج الهجوم الإسرائيلي على إيران، من ضمنهم البحرين والإمارات المطبعتين مع “إسرائيل” منذ العام 2020. ووصفت السعودية الهجمات بـ “الاعتداءات الإسرائيلية السافرة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشقيقة”، وبأنها انتهاك صارخ للقوانين والأعراف الدولية، بينما اتهمت عُمان، التي كان من المقرر أن تستضيف الجولة السادسة من المحادثات النووية الأميركية الإيرانية بعد يومين من الهجوم الإسرائيلي الأول على إيران، “إسرائيل” بالسعي عمداً إلى “عرقلة العملية الدبلوماسية وإشعال صراع أوسع”.

لم تكن دول الخليج العربي راغبة في الحرب، بل سعت جاهدة لتجنّبها. وفي حديثه في دافوس في كانون الثاني/يناير، قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إنّ “الحرب بين إيران و”إسرائيل” يجب أن نجهد لتجنّبها قدر الإمكان”.

كلّ شيء “في الأحمر”
راهنت دول الخليج العربي بشكل كبير على مصداقية ترامب في صنع السلام، الذي خاض حملته الانتخابية بوعد تحقيقه، وإنهاء التدخل الأميركي في الحروب الدائمة ونزع فتيل الصراعات في أوراسيا والشرق الأوسط. وقال فرحان أمام حشد متشكك في دافوس: “لا أرى أنّ الإدارة الأميركية القادمة تساهم في خطر الحرب، على العكس من ذلك، كان الرئيس ترامب واضحاً تماماً في أنّه لا يفضّل الصراعات”.

وقد كرّر هذه القناعة كبار المسؤولين في دول الخليج في مناقشاتهم الخاصّة عن أنّ ترامب سيقف في وجه بنيامين نتنياهو بطرق لم يفعلها جو بايدن. على الأقلّ اعتقدوا أنّ ترامب سيتأثّر باحتمالية عقد صفقات مربحة مع دولهم.

في البداية، بدت هذه الآمال وكأنّها تتحقق، حيث دفع ترامب “إسرائيل” إلى قبول وقف إطلاق نار لمدة شهرين في غزّة، وعمل مع مصر وقطر لتحقيق سلام دائم. كما سهلت إدارة ترامب عدّة جولات من المحادثات النووية مع إيران، وتوسّطت في وقف إطلاق النار مع الحوثيين، وهو ما لا يمنع الحوثيين من شن ضربات ضدّ “إسرائيل”. وخلال زيارته للرياض في أيار/مايو الماضي، التقى ترامب بناء على طلب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع ورفع العقوبات الأميركية عن سوريا.

وقد عارضت “إسرائيل” هذه الخطوة الأخيرة، وشنّت مئات الغارات على سوريا منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول. بل إنها استولت على بعض الأراضي السورية واحتلتها “حتى إشعار آخر”، مما يعرقل خطة التطبيع بين الطرفين.

ولكن بمجرد أن شنّت “إسرائيل” ضرباتها على إيران وانضمّت إليها الولايات المتحدة، تحطمت العديد كل هذه الأوهام. على دول الخليج العربي أن تواجه مجدداً الواقع القاسي المتمثّل في أنّ البيت الأبيض ليس شريكاً موثوقاً به في كبح جماح “إسرائيل” أو إنهاء الحروب في المنطقة. وبالرغم من خيبة أملها، توجّب على دول الخليج الحفاظ على توازن دقيق يتطلّب عدم استعداء ترامب. ولذلك، أصدرت عُمان وقطر والمملكة العربية السعودية إدانات للهجوم الأميركي على إيران، لكنّ الانتقادات كانت شكلية وخافتة.

الفولاذ المصقول
إنّ حرب الـ12 يوماً تثبت اعتقاد المتشددين بأنّ الغرب غدّار وأنّ الدبلوماسية عديمة الجدوى. ومن المرجح أنّ استخدام ترامب للدبلوماسية كأداة للتضليل حين هاجمت “إسرائيل” قبل يومين من جولة مفاوضات مقررة من المحادثات النووية الأميركية الإيرانية.

لقد عزّز هذا من صحة اعتقاد الإيرانيين منذ البداية بأنّ الولايات المتحدة لا يمكن الوثوق بها. كما أن تأييد دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا للهجوم الإسرائيلي أفقد هذه الدول بالنسبة للإيرانيين أهليتها كوسطاء نزيهين وموثوقين.

تملك إيران أيضاً خيارات تصعيدية متعددة، بما في ذلك شنّ هجمات قاتلة على القواعد والقوات الأميركية في المنطقة، وتعطيل البنية التحتية للطاقة في دول الخليج العربي من خلال الهجمات، وإغلاق مضيق هرمز، الذي تتدفق عبره معظم صادرات النفط والغاز الطبيعي المسال من دول المنطقة. وعلى الرغم من تعاملها مع الاضطرابات البحرية خلال “حرب الناقلات” في الثمانينيات وهجمات الحوثيين على منشآت الطاقة السعودية في عام 2019، فإنّ قدرة دول الخليج وشركائها الغربيين على معالجة آثار حرب شاملة مع إيران بسرعة لا تزال غير مختبرة.

ولقد شاهدت هذه الدول الولايات المتحدة وبريطانيا تقصفان الحوثيين لأكثر من عام ونصف، وعلى الرغم من أنّ الضربات أضعفت قدرات الحوثيين، إلّا أنّها فشلت في النهاية في ردع الجماعة. كما تشك دول الخليج في أنّه في حالة وقوع هجمات إيرانية مستقبلية عليها في أن تقدم الولايات المتحدة مساعدة عسكرية طويلة الأمد لها.

تتمثل المصلحة الاستراتيجية الجوهرية لدول الخليج العربي في حرمان أيّ قوّة سواء إيران أو “إسرائيل” أو تركيا، من القدرة على الهيمنة على المنطقة. وقد ظنوا أنّ ترامب سيساعد في تعزيز هذه الرؤية بربطها معه مصالح اقتصادية واسعة. لكن في النهاية، حاز مشروع نتنياهو الكبير على ثقة ترامب مما يفرض على دول الخليج الآن أن تتحلى بالشجاعة وتتهيأ لمنطقة أكثر اضطراباً.

الوساطة طريق وحيد
لا تزال الظروف مواتية لتكرار الأعمال العسكرية المباشرة بين إيران و”إسرائيل”. وما تزال إيران عازمة على إعادة بناء برنامجها النووي وتخصيب اليورانيوم محلّياً، وهو موقف تمسكت به طهران حتّى في ذروة حرب 12 يوماً، بينما مخزون طهران من اليورانيوم المخصّب بنسبة 60%، وحجم الأضرار بمنشآتها النووية وحالها غامضاً.

وتزعّم إيران بأنّ الوكالة الدولية للطاقة الذرية كانت بمثابة منصة لجمع المعلومات الاستخبارية لـ”إسرائيل”، لذلك يتوقع أن يظلّ الغموض يحيط بالبرنامج النووي الإيراني، يقلق أعدائها في المنطقة، وجيرانها في الخليج الذين يخشون عدم الاستقرار.

يجب على دول الخليج تهدئة الأجواء المتصاعدة والتخفيف من حدّة المخاطر المتزايدة. وفي غياب وسطاء موثوقين آخرين، ينبغي عليها أن تحاول بنفسها تسهيل التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران والولايات المتحدة، لأنّها الطريقة الوحيدة لكسر حلقة الصراع وعدم الاستقرار التي تعصف بالمنطقة. ولدى دول الخليج فرصة أفضل من معظمها للنجاح بسبب مواقفها المبدئية من الضربات الأميركية الإسرائيلية التي تضفي مصداقية على دورها كوسيط نزيه.

لا شكّ في أنّ التوسط في اتفاق أميركي إيراني جديد سيكون مهمّة شاقة. ولتحقيق ذلك، يجب على دول الخليج استخدام كلّ ما لديها من نفوذ في واشنطن وطهران وتلّ أبيب لإخراج المنطقة من حالة الحرب فمستقبلها يعتمد على ذلك.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى