كتب صلاح الغول, في “الخليج”:
في سبتمبر/ أيلول 2015، تدخلت روسيا عسكرياً لإنقاذ نظام الرئيس بشّار الأسد من السقوط في وجه فصائل المعارضة السورية المسلحة التي كانت على أبواب دمشق، وتنظيم داعش الذي أسس دولة «خلافة» على مساحة واسعة من الأراضي السورية والعراقية، والحفاظ على نفوذها في سوريا والمنطقة. وقد حقق التدخل الروسي أهدافه «المرحلية» في تثبيت نظام الأسد، واستعادة أغلب الأراضي التي سيطرت عليها الفصائل المسلحة، وتوسيع نفوذ موسكو في سوريا.
وبعد أن اطمأنت روسيا على سلامة النظام السوري، شرعت في بذل جهود لتسوية الأزمة السوريّة المركبة. ففي يناير/ كانون الثاني 2017، انطلقت محادثات أستانا في العاصمة الكازاخية، بمبادرة من روسيا وتركيا وإيران، كبديل أو مسار موازٍ لمحادثات جنيف برعاية الأمم المتحدة. وكان الهدف الأساسي معالجة القضايا الميدانية والعسكرية المرتبطة بالصراع السوري، في ظل تعثر مفاوضات جنيف. وتم بالفعل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين الحكومة السورية والمعارضة المسلحة في مارس/ آذار 2020.
ولكن تباين الأهداف بين الدول الراعية لمحادثات آستانا (روسيا وتركيا وإيران)، وتحيز المحادثات إجمالاً للنظام السوري، فضلًا عن تعنت الرئيس السوري بشّار الأسد في تنفيذ مخرجات المحادثات، أدى إلى فشل مسار آستانا، بعد 22 جولة من المفاوضات، في تحقيق أي اختراق في التسوية السياسية للأزمة السورية. ولم تكن مفارقةً، إذاً، أن تلتئم آخر جولات محادثات آستانا في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت، وأن تشن فصائل المعارضة السورية المسلحة، بتنسيق أو بعلم وفد المعارضة الذي شارك في جولة آستانا الأخيرة، هجوماً مباغتاً على القوات السورية في إدلب وحلب بعد ثمانية أيام فقط من انطلاق هذه الجولة؛ وهو الهجوم الذي انتهى بالاستيلاء على دمشق وفرار الرئيس الأسد وسقوط نظامه برمته، الذي دام لأكثر من 50 عاماً.
وكان اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير/ شباط 2024، وتحولها بعد فترة قصيرة من التقدم الروسي الكاسح إلى حرب موضعية تستنزف القدرات العسكرية والاقتصادية والبشرية الروسية، العامل الأساسي في تقليص الدعم الروسي لسوريا. ولكن الأهم من ذلك أنّ القوات السوريّة لم تستفد من الدعم العسكري الروسي الهائل في الفترة من (سبتمبر 2015-فبراير 2022) في تحسين قدراتها وزيادة مستوى جاهزيتها، وساد لدى القادة العسكريين السوريين تصور زائف بانتهاء الصراع الأهلي لمصلحتهم، فيما كان الفساد ينخر في جنبات الجيش السوري ويتآكل من الداخل بفعل الاستنزاف الطويل الأمد وانخفاض الروح المعنوية.
وقد جاء هجوم فصائل المعارضة المسلحة، بقيادة «هيئة تحرير الشام»، في أسوأ فترة تختبرها روسيا في أوكرانيا؛ حيث ولجت الحرب في مرحلة غير مسبوقة من التصعيد العسكري منذ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم بُعيد سماح الولايات المتحدة للقوات الأوكرانية باستخدام الصواريخ الأمريكية البعيدة المدى لضرب أهداف في العمق الروسي، ثم تبعتها بريطانيا وفرنسا. وبدورها، لم تتردد أوكرانيا في استخدام الصواريخ الغربية ضد أهداف في كورسك وأوريانسك المجاورة. وقد ردت روسيا على القرارات الغربية بتعديل عقيدتها النووية، ومن ثم التهديد باستخدام الأسلحة النووية ضد أوكرانيا ومن يساندها، وبتكثيف حملتها الجوية والصاروخية على مناطق واسعة في أوكرانيا، بما في ذلك العاصمة كييف. وقد رافق هذا التصعيدَ في حرب أوكرانيا زيادةٌ في مستوى الصراع بين روسيا والدول الغربية إلى درجةٍ غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة. والخلاصة أنّ تركيز روسيا على صراعاتها الأوروبية خلق فراغاً في سوريا تمكنت المعارضة المسلحة من استغلاله لتحقيق مكاسب ميدانية. ومن ثم، عندما اجتمع وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا في الدوحة، في 7 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، لم يتداولوا، وفقاً لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان، سبل تقديم أو تسريع الدعم العسكري واللوجستي للحكومة السورية، وإنما ناقشوا، أو بالأحرى استطاع الأتراك إقناع الجميع بأنه من غير الجدوى تقديم دعم إضافي للرئيس بشار الأسد؛ لأن جيشه يتداعى بالفعل. وكانت هناك شواهد واقعية تدعم وجهة النظر التركية، أهمها ما بدا للعيان من تآكل قدرات وبنية الجيش السوري.
وكما تدخلت روسيا عسكرياً في عام 2015 لمتابعة مصالحها الوطنية في سوريا والمنطقة، رأت، والمدن السوريّة تسقط واحدة تلو الأخرى في يد المعارضة المسلحة، أن مصالحها أيضاً تُملي عليها التوقف عن دعم جيش منهزم أو الاستمرار في مباراة خاسرة. بل إنّ روسيا رأت أنّ مصالحها تملي عليها التواصل مع فصائل المعارضة المسلحة، لا سيما «هيئة تحرير الشام» المدرجة على لائحة الإرهاب، لتأمين قاعدتيها الجوية والبحرية في حميميم وطرطوس. ولكن روسيا لم تغفل عن تقديم آخر خدمة لحليفها السوري؛ وذلك بترتيب خروجه من البلاد واستضافته لاجئاً لأغراض إنسانية في موسكو.
ولا تزال احتمالات استمرار الوجود العسكري الروسي في سوريا غير واضحة مع استمرار التقارير التي تفيد بأن روسيا تقوم بإخلاء أصولها العسكرية هناك. ومن المرجح أن تُخلي روسيا قواعدها العسكرية في القامشلي وكوباني وتدمر، ولكنها لا تخطط حالياً للانسحاب بشكل دائم من ميناء طرطوس أو قاعدة حميميم الجوية. وينخرط الروس حالياً في محادثات مع الحكومة السورية المؤقتة للاتفاق على ترتيبات جديدة في هذا الشأن.