هل استدرج بوتين إلى الفخ الأوكراني؟
كتب طوني فرنسيس في “اندبندنت عربية”:
لم تكن نتائج الحرب الروسية ضد أوكرانيا حتى الآن مؤاتية للرئيس فلاديمير بوتين ولا لروسيا وطموحاتها وأهدافها المُعلنة، فبعد 10 أيام من انخراط عشرات الألوف من الجنود المزودين بأحدث أنواع الأسلحة وأشدها فتكاً، براً وبحراً وجواً، لا تزال السلطة السياسية التي يتهمها بوتين بالنازية قائمة في كييف، ولا يزال الجيش الأوكراني يقاتل والشعب الذي اعتبره الإعلام الروسي رهائن في يد الرئيس الأوكراني زيلينسكي ينتظم في مجموعات للمقاومة، أو يغادر لاجئاً باتجاه الغرب، لا باتجاه أراضي “المنقذ” الروسي أو حليفه في بيلاروس.
اعتبر بوتين لدى إطلاقه معركة أوكرانيا أنه يخوض “حرباً مقدسة” ضد توسع حلف الأطلسي بقيادة الأميركيين إلى قلب حدوده، وضد التهام الاتحاد الأوروبي دولة كبرى في القارة العجوز، تقاسمت يوماً ما مع روسيا قيادة الاتحاد السوفياتي، وبدا واثقاً أن طرح مطالبه القصوى سيكون كفيلاً بردع الأطلسي وأوروبا، ويشل إرادة حكومة كييف والحصول على مطالبه بسرعة عاجلة، بما في ذلك اعتراف العالم بسيطرته على أوكرانيا التي ستصبح أشبه بجمهوريات الحكم الذاتي الكثيرة ضمن حدود روسيا الاتحادية، لكن التصور الروسي لم ينطبق على الوقائع، فالأطلسي لم يعتبر أوكرانيا عضواً ليدافع عنه، والاتحاد الأوروبي لم يقرر ضم كييف استجابة لطلبها العاجل، وفي المقابل لم يستسلم زيلينسكي، ولم يهرب أمام تقدم الجيوش الروسية، ولم تقم ثورة ضده في بلاده، بات بوتين وجهاً لوجه مع زيلينسكي، فيما جيش الإمبراطورية الروسية يخوض حرباً تدخل ضد دولة جارة في عملية ستكلف موسكو كثيراً من الخسائر البشرية والمادية والسياسية، وستلحق بأوكرانيا دماراً وموتاً.
انحسرت المبررات الروسية للعملية “الخاصة” في أوكرانيا إلى مساعدة انفصاليي دونتسيك ولوغانسك و”دعمهم” في حربهم لإسقاط النظام في كييف وحل جيشه و”اجتثاث نازييه” على طريقة اجتثاث البعث بعد سقوط الرئيس صدام حسين. صارت الحرب استكمالاً لغزو بدأ في 2014، وكانت نتيجته قضم القرم، ولم تعد على الشكل الذي رسمته موسكو، معركةً ضد الهجوم التوسعي الغربي لا مفر منها ونتيجتها ستحدد العلاقات الدولية ومساراتها لعقود مقبلة .
يفترض بالقيادة الروسية أن تكون على دراية بما حصل وسيحصل. منذ الخريف الماضي وأحاديث الصدام الكبير تتوالى، وفي الشهرين الأخيرين عرض الأميركيون والأوروبيون سيناريوهات للغزو المقبل وحددوا موعده بعد ألعاب بكين الأولمبية. لم تقنعهم مناورات 150 ألف جندي على حدود أوكرانيا، فواصلوا تحذيراتهم، وعندما توقع الرئيس الأميركي جو بايدن بدء الهجوم في 16 فبراير (شباط) الماضي، سخر منه الروس وأرسلوا وزير دفاعهم سيرغي شويغو إلى سوريا، وصرح مسؤولون بأن “بوتين لم يأت في الموعد الذي حدده بايدن”.
ظلت موسكو تتهم الغرب بالإثارة وتنفي نية الهجوم، حتى أنها أعلنت سحب قوات وأنهت تدريباتها، لكن الغرب واصل التحذير بإلحاح من أن الاجتياح سيحصل وسيغير وجه أوروبا والعالم، وستدفع روسيا ورئيسها الثمن، ومع ذلك دخل بوتين المعمعة وأرسل جيوشه معلناً أهدافاً لا تتحقق إلا بالاستسلام الكامل وغير المشروط لسلطة منتخبة شرعياً في أوكرانيا.
خلال 10 أيام من القصف والدمار والهجمات أظهر الأوكرانيون شراسة ملموسة في مقاومة الاجتياح فاقت توقعات بوتين وتصورات جنرالاته، كان هؤلاء يتوقعون سقوط المدن بما فيها العاصمة خلال أيام معدودة، ولن يتسنى لأوروبا المنقسمة على بعضها المتدفئة على الغاز الروسي، ولا لأميركا التي فصلتها عن أوروبا سنوات من الخلافات والاختلافات، القدرة على التحرك، وهي جميعها ستقبل باستعادة روسيا الأرض التي يعتبرها بوتين جزءاً من بلاده، وقدمها لينين في خطأ تاريخي لتصبح جمهورية أوكرانيا السوفياتية.
لكن سير المعارك وسلوك سلطات كييف سارت عكس ما كان يتمناه بوتين، قاوم الأوكران ولم يهرب قادتهم، على الرغم من العروض الغربية، وارتبكت نظرية القتال المباشر ضد حلف الأطلسي وأميركا، وفتح إصرار كييف على المواجهة الباب أمام تغيير هائل في السلوك الغربي، كما سارع الأوروبيون إلى توحيد كلمتهم بمن فيهم بريطانيا الخارجة من الاتحاد الأوروبي، وقرروا عقوبات “مميتة” ضد روسيا وواكبتهم الولايات المتحدة بتدابير مماثلة.
الغرب اجتمع كما لم يجتمع من قبل، وشن حملة عقوبات قاسية، وبدأت دول إرسال السلاح إلى أوكرانيا، وذهبت أخرى إلى تغيير في عقيدتها السياسية، إذ لجأت ألمانيا إلى زيادة موازنتها الحربية، وطرحت دولتان محايدتان هما فنلندا والسويد الانضمام إلى حلف الأطلسي الذي كان قارب الموت السريري قبل أشهر، بحسب وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وفي خلاصة رأي دونالد ترمب الرئيس الأميركي السابق.
فهل تم استدراج بوتين إلى فخ؟ ليتم إغراقه في وحل حرب عالمية مصغرة تنتهي بإنهائه وقيام وضع آخر في روسيا؟ وهل لم يبحث بوتين وجنرالاته الوضع الأوكراني جيداً قبل قرارهم بالاجتياح؟
التاريخ الحديث والأقدم يقدم دروساً أولية في طريقة غزو البلدان وإحكام السيطرة عليها، الأميركيون غزوا العراق بعد أن هيأوا محيطاً إقليمياً ودولياً مؤاتيا لمشروعهم، وبنوا في العراق نفسه شبكة من القوى السياسية المعارضة، كان قادتها يقيمون بين طهران ودمشق ولندن وغيرها، وهذه الشبكة هي التي تولت السلطة فور سقوط صدام حسين، ولعبت دوراً بارزاً في التهيئة لإنهائه. لكن مجريات التدخل الروسي في أوكرانيا أظهرت أن الإعداد الروسي لتغيير النظام فيها كان صفراً، الجيش بقي على تماسكه وزيلينسكي صار زعيماً دولياً، ولم يبق من العدة الروسية غير زعيمي الدونباس .
أظهر الغزو الحجم الضئيل للتأثير الروسي في الداخل الأوكراني، فلا تيار سياسياً يغطيه ولا شخصيات ذات وزن تصرح بما يناقض موقف زيلينسكي، إنه فشل استخباراتي، لكنه سقوط سياسي مدو لقيادة تمسكت دائماً بالقانون الدولي، وبررت تدخلاتها في الخارج حين حصولها، كما في سوريا الآن، بأنها تلبية لطلب السلطات الشرعية، وهذا ما قاله الاتحاد السوفياتي تبريراً لتدخله في أفغانستان قبل 42 عاماً .
اتخذت المعركة أبعادها العالمية، وروسيا الآن ليست في أفضل أحوالها، ومع استمرار القتال والمقاومة الأوكرانية سيجد بوتين نفسه أمام احتمالات صعبة.
هل يذهب إلى زج جيشه في معركة تدميرية تنتهي باحتلال البلاد، وتنصيب حكومة تابعة وسط هروب ملايين السكان إلى الغرب؟ قد يحصل ذلك، لكن الرئيس الروسي يعرف أن أوكرانيا ستبقى عندها جرحاً نازفاً تنزف معه روسيا.
إذا لم يتحقق هذا السيناريو سيجد بوتين نفسه في أفغانستان ثانية، ولكن في أوروبا هذه المرة. وهذا الاحتمال يبقى وارداً بسبب الأداء العسكري الروسي الحالي، وحرب محاصرة المدن وتدميرها من جهة، وازدياد فعالية المقاومة الأوكرانية وعزمها على القتال من أخرى.
وإذا لم يُسجَل خرق دبلوماسي يتيح خروج الطرفين من المأزق، وهذا ما لا يبدو متاحاً حتى اللحظة، فإن عقلية المواجهة في موسكو قد تذهب إلى تصعيد أوسع يطال دول البلطيق، وربما الشرق الأوسط والقوات الأميركية في سوريا تحديداً، وهو ما ألمح إليه باحثون روس أخيراً، يعتبرون أن مصلحة مشتركة تجمعهم بإيران في طرد الأميركيين من أوروبا وغرب آسيا. أصحاب هذه النظرية ينطلقون من أن الحل والربط في النهاية بيد أميركا، فلنجلس معها إذن من أجل اتفاق شامل. قد يقع شيء من كل ذلك، لكن الأكيد أنه فوق الضحايا والدمار لا يمكن وصف الغزوة الروسية لأوكرانيا بالإنجاز لموسكو.