هل أميركا معنية فعلًا بإنهاء الحرب على غزة؟
كتب د. أحمد أبو الهيجاء, في “الجزيرة”:
لم تكن الولايات المتحدة الأميركية الحليف التاريخي الأبرز لإسرائيل عند نشأتها عام 1948، ولم تحظَ بالاهتمام الأميركي في ذلك الزمن – كما هي اليوم – بالرغم من أنها ثانية دولة تعترف بإسرائيل بعد قيامها، فأول من اعترف بإسرائيل كان الاتحاد السوفياتي، بينما تعتبر بريطانيا سبب نشأة الكيان ونكبة الفلسطينيين، ولا يمكن نسيان بصمات فرنسا في برنامج التسلح النووي الإسرائيلي الذي تهدد به اليوم دول المنطقة.
تنبهت الولايات المتحدة لأهمية إسرائيل الإستراتيجية بعد نكسة 1967، حين اكتسحت الأخيرة العرب في ستة أيام، عند ذلك شعرت الولايات المتحدة أنَ إسرائيل تصلح بجدارة لكي تكون اليد الضاربة التي تفرض الهيمنة الأميركية الاستعمارية على المنطقة.
يدور في أروقة المتابعين كثير من الجدل حول من يهيمن على قرار الآخر، إسرائيل أم الولايات المتحدة الأميركية. من المؤكد أن إسرائيل تتمتع بنفوذ قوي جدًا في الولايات المتحدة الأميركية، لخصه رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو حين سئل عن الرأي العام الأميركي بعد حراك الجامعات الأميركية في ذروة الحرب على غزة، فقال إن أميركا يوجد بها الكثيرون ضد إسرائيل، لكن إسرائيل لا يهمها ذلك ” ما دام الكونغرس معنا، ولدينا لوبي قوي هناك”، أي أنه لم يعطِ وزنًا لـ 1600 مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في أميركا في الشهور الخمسة الأولى للحرب على غزة، مقابل 280 فقط مؤيدة لإسرائيل، إنها لعبة جماعات الضغط ولكنْ لكل شيء حدود.
لا يمكن التقليل من أثر ذلك على القرار الأميركي في دعمه الراسخ لإسرائيل، لكن العلاقة متشابكة أكثر من ذلك، إذ إنّ الفاصل في حدود المسموح والممنوع مرتبط بالدرجة الأولى بمصالح الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية وليس بمصالح إسرائيل إذا تعارضتا.
يطرح ذلك سؤالًا فيما يتعلق بالحرب على غزة، هل الولايات المتحدة الأميركية معنية فعلًا بإنهاء الحرب على غزة؟ الجواب بكل تأكيد لا. إذ لو كانت الولايات المتحدة الأميركية معنية بإيقافها لأوقفتها بمكالمة هاتفية واحدة، هذا لا يعني أن الولايات المتحدة راضية عن أداء إسرائيل في الحرب، فمن الواضح أن هناك تباينات في طريقة إدارة الحرب، لكن الإدارة الأميركية لم تصل بعد لقرار حاسم بأنها تريد إنهاء هذه الحرب.
فالإدارة الأميركية ما زالت عالقة في بناء تصور اليوم التالي للحرب، ومادام لم ينضج هذا التصور بتوافق إسرائيلي إقليمي فلن تتخذ الولايات المتحدة الأميركية قرارًا بإنهاء الحرب. يلخص ذلك تقرير صادر عن معهد الأمن القومي الإسرائيلي حول العلاقة الأميركية- الإسرائيلية منذ بداية الحرب على غزة، جاء فيه أن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل في حربها وتساعدها عسكريًا وإستراتيجيًا، لكنها تنتقد سلوكها وتحاول الحد من عنف الحرب.
وتشترك الإدارة الأميركية مع إسرائيل في هدف “القضاء على حماس” وخلق واقع أمني جديد في غزة، لكنها وضعت حدودًا لإسرائيل لكي لا تضر بتوجهات الإدارة الأميركية بتشكيل نظام إقليمي جديد، يتضمن التطبيع مع دول المنطقة.
يقال أنّ إسرائيل تعرف تمامًا متى تصل الولايات المتحدة الأميركية إلى الخط الأحمر (enough is enough)، وهي وإنْ تبين أحيانًا أنها تشاكس الولايات المتحدة الأميركية، فهي لا تتجاوز بتاتًا حدودها، يقودنا ذلك إلى حقيقة مطلقة وهي أن هذه الحرب تقودها الولايات المتحدة الأميركية، وإسرائيل ليست سوى أحد اللاعبين الرئيسيين فيها.
لنستذكر في حدود هذه العلاقة ما قالته رئيسة وزراء إسرائيل السابقة غولدا مائير حين فرضت الولايات المتحدة الأميركية عليها وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 وما تلا ذلك، قالت: “ما أضعفنا أمام الأقوياء، وما أصغرنا أمام الكبار”. مشيرة إلى محدودية القوة والاستقلالية في القرار التي تتمتع بها إسرائيل حين تقرّر القوى الكبرى شأنًا ما.
إذ إن إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون التي أنشأت جسرًا جويًا من العتاد العسكري لمساعدة إسرائيل بعد أنْ شنت مصر وسوريا، حربًا مفاجئة عام 1973، هي ذاتها التي هددت في عهد الرئيس جيرالد فورد بإعادة تقييم العلاقات الأميركية مع إسرائيل، ما لم توقع معاهدة “فكّ الاشتباك” مع مصر للانسحاب من شبه جزيرة سيناء التي احتلتها عام 1967 لترضخ إسرائيل فورًا.
لا يختلف – وفق ما سبق – التصور الأميركي عن التصور الإسرائيلي في إدارة العلاقة مع الفلسطينيين، فكلا الطرفين متفقان على عدم واقعية قيام دولة فلسطينية، وكل ما تديره الولايات المتحدة الأميركية لصالح الفلسطينيين، هو تحسين ظروف حياتهم في سياق الحسم التاريخي للصراع الذي يتكوّن من طرفين: مهزوم ومنتصر، وعلى المهزوم – من وجهة نظرهم والتي يتشاركونها مع عدد من دول الإقليم – وهم الفلسطينيون أنْ يرضخوا لشروط المنتصر.
وهذه هي اللغة الدبلوماسية التي يتحدث بها ممثلو الإدارات الأميركية المتعاقبة مع الفلسطينيين ومع دول المنطقة، لولا أن عكّر صفو ذلك أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما تلاها.
يتّفق الطرفان على الحسم التاريخي للصراع لصالح إسرائيل، لكنهما يختلفان في تفاصيل إدارة هذا الحسم، وهذا الخلاف هو خلاف متشابك بين أطراف في إسرائيل مع أطراف في الولايات المتحدة الأميركية ضد أطراف أخرى في إسرائيل مع أطراف أخرى في الولايات المتحدة الأميركية، بين من يريد أنْ يبقى رمزٌ سياسي هزيل للفلسطينيين معزول في جيوب مبعثرة في الضفة الغربية حتى لا تنزلق إسرائيل إلى الفصل العنصري عالميًا، وتتحول لدولة منبوذة، وبين من يطالب بالحسم المباشر من خلال التهجير.
فالإدارات الأميركية المتعاقبة تشرعن الاستيطان في الضفة الغربية دون اختلاف جوهري بين الإدارات الديمقراطية أو الجمهورية منذ عام 1977 في هذا الملفّ، فالإدارات الديمقراطية تعتبر الاستيطان “مجرد عقبة أمام السلام”، وهو تعبير سخيف، مقارنة بحالة فصل عنصري وتهجير سكاني فاضحة تنطبق عليها اتفاقية جنيف الرابعة، بينما تعتبر الإدارات الجمهورية أن الاستيطان مشروع، وأن الضفة الغربية بما فيها القدس، حيز متاح لكل الأطراف إلى حين الوصول إلى تسوية والتي لن تحدث أبدًا.
ليست مجرد حليف
تتدخل الولايات المتحدة الأميركية في أدق تفاصيل الحياة في إسرائيل وليس العكس، ولا يحتاج ذلك إلى كثير استدلال، كانت صحيفة يديعوت أحرنوت أشارت في تقرير لها بداية الحرب على غزة إلى مستوى هيمنة الإدارة الأميركية على قرارات الجيش في إسرائيل، لدرجة أن نقاشًا إسرائيليًا جرى حول ما إذا كان الجنرالات في الجيش الإسرائيلي يتمتعون باستقلالية في اتخاذ القرارات فيما يتعلق بالحرب، حتى إن الصحيفة سرّبت أن الجيش الإسرائيلي يرسل قائمة الأهداف في غزة مسبقًا لقيادة الأسطول الخامس في الجيش الأميركي ليتلقى الموافقة عليها.
تدور أحيانًا نقاشات صبيانية داخل أروقة مجلس الوزراء الإسرائيلي حول اتهامات بالتبعية للولايات المتحدة الأميركية، ويتم الغمز مرارًا وتكرارًا بجنرالات وعسكريين ووزراء بأنهم ليسوا فقط متوافقين مع الإدارة الأميركية، بل هم عملاء ينقلون لها ما يدور داخل أروقة صنع القرار في إسرائيل.
وهي اتهامات وجهها بشكل واضح نتنياهو لبيني غانتس في أكثر من مرة قبل استقالته من مجلس الحرب، محاولًا الظهور أمام الجمهور الإسرائيلي كمن يتحدى الإدارة الأميركية، حين انتقد تباطؤ المساعدات العسكرية الأميركية وقبلها في مواقف عديدة، بينما لا تعدو تصرفاته أكثر من حركات بهلوانية مزيفة يقوم بها ويجاريه بمثلها بن غفير، وبعض أقطاب اليمين، لكنهم كما غيرهم من المسؤولين الإسرائيليين يعرفون حجمهم تمامًا أمام الإدارة الأميركية إذا وقعت الواقعة، ويهرولون لها، كما في زيارة نتنياهو الأخيرة لواشنطن.
وأكثر من ذلك، مثلًا يعرف المتبصرون بالشأن الإسرائيلي مستويات تغلغل أعمق بكثير، مثلًا يخضع قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال الإسرائيلي، أي قيادة الضفة الغربية للرقابة الأميركية المباشرة، وتتدخل الإدارة الأميركية بشكل واضح في عمله وتشعره برسائل مختلفة أنه تحت مراقبتها لئلا يتجاوز الخطوط الأميركية الحمراء في الضفة الغربية.
يثير ذلك جدلًا مستمرًا بين أقطاب اليمين وأقطاب الدولة العميقة في الجيش حول ماهية التبعية للإدارة الأميركية، في مرات عديدة تجاوز لواء “كفير” في الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية حدوده في المبالغة في التطرف، لا سيما مع تغلغل أعضاء الصهيونية الدينية في وحدات الجيش العاملة في الضفة الغربية، فكانت الرقابة الأميركية تشعره دائمًا أنك تحت المجهر.
لا يعني ذلك أنَّ الإدارة الأميركية تقوم بشيء ما لصالح الفلسطينيين، فجماعات الاستيطان في الضفة الغربية بمن فيها جماعات إقامة الهيكل في القدس تتلقى جلّ دعمها المالي من جماعات في الولايات المتحدة الأميركية.
يعني ذلك أن ما تقوم به إسرائيل من إجراءات ضم وتسارع في الاستيطان وقضم الأراضي في الضفة الغربية يتم بموافقة أميركية كاملة، بينما في المقابل تُظهر الإدارة الأميركية موقفًا أكثر تشددًا ضد إسرائيل في اعتداءاتها الخشنة المباشرة على الفلسطينيين في الضفة، أو ارتكاب مجازر بحقهم أو عمليات تهجير جماعي، أو ما يمكن تسميته رفض “التوحش” الذي تنتهجه الصهيونية الدينية في السنوات الأخيرة لحسم الصراع على الضفة الغربية.
تيارات متداخلة
قدّمت الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل في الفترة من 1946-2023؛ أي ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 260 مليار دولار مساعدات عسكرية واقتصادية رسمية وفق بيانات (Greenbook) للمساعدات الأميركية للدول بما في ذلك التعاون في مجال الصواريخ والأقمار الاصطناعية، بينما تلقت أضعاف ذلك من خلال الهبات وتبرعات رجال الأعمال ولوبيات الدعم في الولايات المتحدة الأميركية.
يتشكّل اللوبي الضاغط الداعم لإسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية من الأيباك، ومعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، ورابطة “مكافحة التشهير”، و”مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل”، وهم أشد فتكًا من الأيباك.
تشكل الصهيونية الدينية التي تتغلغل في إسرائيل في مقابل الصهيونية العلمانية انعكاسًا للمسيحية الصهيونية المتطرفة في الولايات المتحدة الأميركية والتي تعتبر شريانًا أساسيًا لها.
فالإنجيليون في الولايات المتحدة الأميركية أكثر دعمًا لإسرائيل من الأيباك اليهودي، أي أن أوراق التطرف المتنامية في إسرائيل جذورها في الولايات المتحدة الأميركية، حتى إنه وفي السجالات الفكرية بين الجانبين فإن تطرف الإنجيليين في الولايات المتحدة الأميركية أعلى من تطرف بعض الإسرائيليين.
يكفي للاستدلال التاريخي على هذا البعد الديني المتطرف في العلاقة بين الطرفين أن الرئيس الأميركي الجمهوري السابق دونالد ريغان (1981-1989) قال حين تم تسليمه حقيبة الأزرار النووية عقب تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية: “أدعو الله أن أكون أنا الشخص الذي سيضغط على هذه الأزرار في معركة “هرمجدون”، وكان مؤمنًا بمعركة هرمجدون التي ستؤدي لنهاية الزمان.