هل أدركت أوروبا أخيراً أنها وحيدة؟

كتب ألطاف موتي في صحيفة العرب.
لقد انقشع الحلم المريح. لعقود خلت، غطّت أوروبا في سبات عميق تحت المظلة الأمنية الأميركية، مستندة إلى يقين بأن التحالف عبر الأطلسي صخرة لا تتحطم. ولكن مع إسدال الستار على عام 2025، تبدل المزاج العام في بروكسل وبرلين وباريس من مجرد القلق إلى إدراك بارد وقاسٍ للحقيقة المجردة: لقد أصبحت أوروبا وحيدة.
لم تعد المؤشرات خفية أو قابلة للتأويل، بل باتت تصرخ من مانشيتات الصحف. فالوثيقة السياسية الأخيرة الصادرة عن واشنطن، والتي وقعها الرئيس ترامب مؤخراً، لم تكتفِ بانتقاد الإنفاق الدفاعي الأوروبي فحسب، بل وصفت الاتحاد الأوروبي صراحة بـ “الكيان المتداعي”، داعية إلى “تبني مقاومة” ضد بروكسل. هذه ليست لغة حليف؛ بل هي لغة خصم ومنافس.
لأول مرة منذ عام 1945، تواجه القارة العجوز عزلة استراتيجية. ولم يعد السؤال مطروحاً عما إذا كانت الولايات المتحدة ستنسحب، بل حول مدى سرعة أوروبا في تعلم سبل البقاء دونها.
لقد تهشم وهم الأمان بشكل قاطع هذا العام. وبينما لا يزال حلف شمال الأطلسي (الناتو) قائماً على الورق، فإن الثقة في تفعيل “المادة الخامسة” قد تبخرت. لقد أجبر رفض إدارة ترامب الالتزام غير المشروط بالدفاع عن أوروبا القادة الأوروبيين على إعادة ضبط حساباتهم بشكل محموم.
جاء الرد الأوروبي عبر ضخ الأموال، وإن افتقر حتى الآن إلى الفعالية. ففي عام 2025، سجل الإنفاق الدفاعي الجماعي للاتحاد الأوروبي رقماً قياسياً بلغ 381 مليار يورو، حيث تقود ألمانيا وبولندا حملة إعادة تسلح لم يشهد لها مثيل منذ الحرب الباردة.
ومع ذلك، فإن فواتير الإنفاق لا تعني بالضرورة تحقيق الأمن؛ إذ لا يزال جيش القارة عبارة عن “رقعة شطرنج” غير متناسقة تتألف من 27 جيشاً بمعدات غير متوافقة.
وفي خضم ذلك، تواصل الحرب في أوكرانيا استنزاف الترسانات الأوروبية. ومع غياب الدعم اللوجستي والاستخباراتي الأميركي، بدأت التصدعات تظهر للعيان. ولم يعد قادة دول البلطيق يتساءلون عما إذا كانت واشنطن ستقدم المساعدة، بل باتوا يخططون لمستقبل يتحتم عليهم فيه ردع العدوان الروسي بالموارد الأوروبية البحتة. لقد اكتمل التحول من اعتبار “الاستقلال الاستراتيجي” مجرد موضوع للنقاش، ليصبح “استراتيجية بقاء”.
إذا كان الوضع الأمني مأساوياً، فإن المشهد الاقتصادي يبدو قاتماً بنفس القدر؛ حيث تجد أوروبا نفسها عالقة بين فكي كماشة لعملاقين يتبنيان سياسات حمائية: الولايات المتحدة والصين.
لقد مر أكثر من عام منذ أن قدم ماريو دراغي تقريره التاريخي حول التنافسية الأوروبية، والذي حمل تحذيراً صارخاً: “الابتكار أو التدهور”.
وبعد مرور عام، جاءت النتائج مخيبة للآمال. فعلى الرغم من إطلاق المفوضية الأوروبية “بوصلة التنافسية” في يناير 2025 لتقليص البيروقراطية وتعزيز التكنولوجيا، إلا أن التنفيذ كان بطيئاً، حيث لم يتم تفعيل سوى 11في المئة فقط من توصيات دراغي.
في غضون ذلك، أصبحت الحرب التجارية حقيقة واقعة. فقد طالت التعريفات الجمركية الأميركية الصلب والسيارات الأوروبية، بينما يواصل “قانون خفض التضخم” الأميركي جذب الاستثمارات الخضراء بعيداً عن الاتحاد الأوروبي.
وعلى الجانب الآخر، تغرق الصين السوق الأوروبية بالمركبات الكهربائية المدعومة حكومياً، مما يقوض المصنعين المحليين. وتحاول أوروبا المقاومة عبر فرض تعريفاتها الخاصة، لكنها تفتقر إلى القوة المالية الموحدة
لم يعد السؤال مطروحاً عما إذا كانت الولايات المتحدة ستنسحب، بل حول مدى سرعة أوروبا في تعلم سبل البقاء دونها.
التي تتمتع بها الدول العظمى، في حين بدأت السوق الموحدة – التي كانت يوماً سلاح أوروبا الأقوى – بالتشرذم تحت وطأة المصالح الوطنية الضيقة.
لعل التهديد الأعظم لا يأتي من الخارج، بل ينبع من الداخل. فالضغوط الخارجية القادمة من واشنطن وموسكو تغذي الانقسامات الداخلية. وقد أدى الدعم الصريح من إدارة ترامب لأحزاب اليمين المتطرف والمشككين في المشروع الأوروبي إلى تقوية شوكة القوى السياسية التي ترغب في تفكيك الاتحاد من الداخل.
لقد أضحى الحكم كابوساً حقيقياً. فمع بقاء قاعدة الإجماع سارية في قرارات السياسة الخارجية الرئيسية، يمكن لفيتو واحد من دولة عضو متمردة أن يشل حركة التكتل بأكمله. وقد شهدنا هذا مراراً في عام 2025، حيث تعثرت حزم العقوبات والمبادرات الدفاعية بسبب معارضة عاصمة واحدة فقط.
إن إدراك حقيقة “أوروبا الوحيدة” بات يخلق معسكرين: فريق تقوده فرنسا والمفوضية يدفع نحو “ولايات متحدة أوروبية” قادرة على الوقوف بندية أمام القوى العظمى، وفريق آخر يتقوقع داخل القومية، مؤمناً بأن النجاة تكمن في عقد صفقات ثنائية مع ترامب أو بوتين.
إذن، هل أدركت أوروبا أنها وحيدة؟ نعم. لقد ولت حالة الإنكار التي ميزت أوائل العشرينيات. وجاءت صدمة التحول في السياسة الأمريكية في ديسمبر 2025 لتزيح آخر غشاوة عن الأعين.
ومع ذلك، فإن الإدراك لا يعني بالضرورة القدرة على الفعل. أوروبا تستيقظ، لكن صحوتها جاءت متأخرة. إن التحول من عميل للأمن الأمريكي إلى لاعب مستقل أمر مؤلم ومكلف ومحفوف بالمخاطر.
إن عهد القوة الناعمة يلفظ أنفاسه الأخيرة. وتتعلم أوروبا اليوم درساً قاسياً: في عالم تحكمه الذئاب، لا يعد الامتناع عن أكل اللحوم موقفاً أخلاقياً، بل هو حكم بالإعدام. وستقرر السنوات القادمة ما إذا كان هذا الإدراك سيقود إلى نهضة أوروبية جديدة، أم إلى انحدار بطيء ومفكك.




