كتب يقظان التقي في ” العربي الجديد”: يكشف مونديال كأس العالم في قطر المكاسب الكبيرة المتوقعة من استضافة المنطقة أكبر تظاهرة رياضية وسياحية بحضور نجوم عالميين، وهو ما عبّر عنه رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، جياني إنفانتينو، بأن المونديال سيكون “مهرجانا عالميا، وفرصة لأن نتحد جميعا من أجل السلام، وتبادل الثقافات المختلفة بين الملايين”، مؤكّدا أن الاتحاد تلقى 23 مليون طلب لشراء تذكرة في كأس العالم، وهو رقم قياسي. فيما كشفت قطر عن المكاسب المالية المتوقعة من تنظيم المونديال، والتي ستصل إلى 17 مليار دولار، تجبيها من عائدات السائحين، والمونديال سيتابعه ما بين ثلاثة إلى أربعة مليارات نسمة في العالم، ما يعزّز أن تكون قطر وجهة سياحية عالمية فائقة خلال البطولة، وعقب البطولة، ومعها دول مجلس التعاون الخليجي، فالدول التي استضافت البطولة استفادت من زيادة السياحة، مثل البرازيل وروسيا. ويشكل حضور نحو مليوني نسمة خلال البطولة، من بينهم 12 ألفا ما بين إعلامي وفني ومصوّر، رهانا رياضيا في تقريب الشعوب بعضها من بعضه الآخر، ورهانا سياسيا تسعى قطر إلى بنائه، في قوة الالتفاف حول مشروع سلام إنساني مشترك.
تتوقع الأرقام الأولية أن ينفق السياح ما يقارب سبعة مليارات دولار مباشرة في المجال السياحي. وهذا يحدّد نوعا من معالم السياحة في المنطقة، فالسياحة من الصعب أن تكون موجودة في الأزمات والحروب. في كل الحالات، لا يأتي السائح لكي يحارب، أو يعيش حروبا، أو يرى حياته مهدّدة. هذا مستحيل. السياحة هي ضد العزل السياسي والإنساني. هي عابرة لكل هذه المواضيع، وهي المدى المفتوح، المورد الحضاري، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي. ثم إن السياحة لا تعني فقط الجلوس في المقهى، أو الفندق. السياح الآتون إلى قطر يريدون التعرّف على الشعوب في المنطقة، على تاريخها، آثارها، عاداتها، تقاليدها، ومدى تطوّرها، وانفتاحها، مدى مدينية المدينة، فيكتشف الزوار المناخ الملائم، والامتيازات التي توفرها قطر وجيرانها من دول الخليج، التي بدأ مواطنوها يستثمرون في العقارات والمشاريع السياحية المنتظر أن تستقطب حوالي خمسة ملايين سائح بحلول العام 2030.
يوفر هذا أسباب التنمية المستدامة، ويحقق مداخيل لعشرات السنيين في زمن عالمي يمر بأزمات سياسية واقتصادية كبيرة. لبنان في السبعينيات، أيام الدولة والنظام والهدوء النسبي، كان يستقبل حوالي مليوني سائح سنويا، 80% من الخليج العربي، وأميركا وأوروبا، وبيروت كانت تقصدها الناس قبل أن تدمرها وتستولي عليها المليشيات من هنا وهناك. كان لبنان نموذجا للسياحة الهادئة في مرحلة اتفاق الطائف، فالأمن هو الذي يفتح الطريق للسائح. عرفت مصر انتعاشا سياحيا، لكن السياحة فيها بعد حادثة شرم الشيخ والمعارك في سيناء والتفجيرات تراجعت إلى حد كبير.
لا يريد السائح أن يأتي ليموت، بل يأتي مع عائلته ليكون في أمان لا أكثر. المغرب العربي، يقصده ملايين السواح، والسياحة هناك لم تتاثر بأحداث المشرق العربي، لأن المغرب خارج العنف الذي وقع في سورية وليبيا واليمن والعراق ولبنان. تنفّست تونس الديمقراطية نسبيا، لكن الأحداث التي جرت في تونس العاصمة والأطراف جعلت السواح من إيطاليا وفرنسا وأميركا يتردّدون في المجيء إليها. يوجد في تونس نحو مائة مهرجان سياحي سنوياً، فالسياحة هي منتوج حضاري للانفتاح السلمي الذي يحمل معه عوالم الثقافة والأدب والموسيقى والسينما والمسرح والعوالم الرياضية، لكن السياحة مرتبطة بالأمن أولا وأخيرا. الأزمات تنزع موردا أساسيا من الموارد الاقتصادية. هذا الأمر يعرفه خصوم هذه البلدان، سواء من هذا البلد أو ذاك، من هذا العدو أو الخصم، ومن الإرهابيين الذين يمارسون ضرب المدن بشريانها الأساسي والتاريخي، لإضعافها وعزلها كما حدث من تفجير مأساوي في إسطنبول أخيرا. كل هذا يدفعنا إلى القول إنه لا يمكن أن نفصل بين السياحة الساخنة والسياحة الباردة. عندما تنحسر السياحة، فذلك يعني أن البلد عزل نفسه وخنق معرفته وحواره مع العالم، ما يعني ضمور اقتصاده القومي. هذه أزمة الشرق الأوسط، إذا لم تقم أنظمة ديمقراطية. أما إذا استمرّت الحروب والأزمات، وهذا الطوفان من النزوح (40 مليون نازح في المنطقة)، فهذا سيؤثر سياسيا وأخلاقيا على الحركة السياحية. لنتأمل السائح يأتي إلى سورية قبل أن تلتئم عودة اللاجئين أنفسهم، أو إلى الموصل في العراق. لا نتكلم عن لجان الاستكشاف أو التعمير أو التحقيقات. هذه ليست سياحة. السياحة الحقيقية هي التي يمارسها الفرد بكل حرية، متأكّدا من أن المكان الذي يقصده آمن، ويستطيع أن يكون حرّا في تحرّكاته وإقامته، في المقهى أو الفندق أو على الطريق، وأينما كان، من دون عنف مادي أو عنف رمزي، وبعيدا عن أي إكراه، حال السياحة في إسرائيل، انعدام أمن ودرس في التزوير الجغرافي والسياسي، ما يعود بشكل أساسي إلى أن إسرائيل اختراع استعماري جديد على أرض فلسطين التقليدية.
ليست هناك سياحة في الأزمات. السياحة هي خارج الأزمات. تأتي إما قبل الأزمات أو بعدها. وبعدها منوط بدول الشرق الأوسط، كأن يحالفها حظ قطر، بإبداع، سياحة حرّة، بناء هوية خاصة وجماعية، اختبار لعبة الذات والآخرين. وكرة القدم شريكة في الإنجاز في قطر، ونشوء هوية قطرية عابرة للأصقاع، فبعدما سجلت أوروبا الشرقية أكثر المناطق إيفادا للسائحين خلال العام 2021 بنسبة 50.6%، يليها الشرق الأوسط بنسبة 18.9%، أوروبا الغربية 16.4%، وأفريقيا 7.1%، هو العالم كله في قطر اليوم، من دون تخوم ولا حدود، تعبره الناس في اتجاه واحد سلمي منفتح على الآخر