هجوم موسكو بين “منظور المؤامرة” والتفسير الأيديولوجي
كتب محمد أبو رمان في العربي الجديد.
أسئلة وتساؤلات عديدة يطرحها المراقبون والسياسيون عن دلالات الهجوم الدموي على مجمع “كروكوس سيتي هول” في موسكو، وأدّى إلى مقتل 152 شخصاً، وإصابة نحو 285، وتبنّاه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بصورة رسمية عبر وكالة أعماق التابعة له. فوفقاً لكثيرين، يكرّس هذا الهجوم نظرية المؤامرة التي أحاطت بالتنظيم منذ صعوده قبل نحو عشرة أعوام وسيطرته على الموصل وإعلان الخلافة في يونيو/ حزيران 2014، إلى حين خسارته منطقة الباغوز في فبراير/ شباط 2019 (آخر معقل من معاقل خلافة داعش في شرق سورية)، إذ ذهب كثيرون إلى ربط “داعش” بأجهزة استخبارية دولية وإقليمية ترتبط بإيران أو حتى بالموساد الإسرائيلي والولايات المتحدة، وربما بقوى إقليمية أخرى في المنطقة.
هي مفارقة، بالفعل، عندما يستهدف التنظيم روسيا، وهي التي اتخذت مواقف مؤيدة للفلسطينيين ضد الإسرائيليين في الحرب أو بشأن الجرائم الصهيونية ضد غزّة. ليس ذلك فقط، بل قبله، هاجم التنظيم إيران (في مدينة كرمان، في بداية العام الحالي، خلال ذكرى إحياء مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني)، التي تمثّل مركز محور الممانعة والمقاومة، الذي يدعم حركة حماس سياسياً وعسكرياً ولوجستياً، على الأقل وفق ما هو معلن، بينما لم يقم التنظيم (داعش) بأيّ استهداف للمصالح الأميركية والإسرائيلية في هذه المرحلة، ولو بهجمات محدودة في إطار نصرة غزّة والوقوف مع الشعب الفلسطيني في هذه المحنة الإنسانية الكبرى والمذبحة التاريخية التي يتعرّض لها!
من السهل الركون إلى “منظور المؤامرة” هذا في تفسير الحدث، وهو ما يتّسق مع “المواقف المسبقة” لنسبة كبيرة من السياسيين العرب من تنظيم داعش. ولكن إذا أخذنا الحدث من منظورات مختلفة تتسق مع خطاب التنظيم المعلن والواضح ومع السياقات السياسية والاستراتيجية لشبكته العالمية، قد يبدو الأمر مختلفاً وقابلاً للتفسير والتحليل أكثر.
لم يضع “داعش”، بخلاف “القاعدة”، القضية الفلسطينية أولوية في خطابه الأيديولوجي
ولنعد إلى موقف التنظيم من عملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، التي مثّلت بداية الحرب الراهنة على غزّة، لنجد أنّه تجنّب بصورة واضحة الإشادة بحركة حماس، واتّخذ خطاباً موارباً عن ضرورة “قتال اليهود والصليبيين”، في أكثر من عدد من صحيفة النبأ (الناطقة باسم التنظيم)، والاكتفاء بالثناء على “المجاهدين في فلسطين”. فيما صدّر المتحدّث باسم التنظيم أبو حذيفة الأنصاري، في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، خطاباً يدعو فيه إلى نصرة المسلمين في غزّة من خلال القيام بعمليات في كل مكان يستطيع أنصار التنظيم العمل فيه. وفي وقت أشادت فيه بعض جماعات القاعدة، في اليمن والمغرب وغيرهما، بكتائب الشهيد عز الدين القسّام (من دون ذكر حماس)، تحدّث “داعش” بعمومية من دون ذكر حركة حماس أو الإشادة بها.
معروف أنّ حركة حماس، بالنسبة لتنظيم داعش، منحرفة عن الاتجاه الصحيح والخط المستقيم، مثل جماعة الإخوان المسلمين وحتى الجماعات الجهادية الأخرى، كالقاعدة. وثمّة مواقف عدائية تقليدية بين حركة حماس وتيار السلفية الجهادية، وتباين كبير في الخطابات الفكرية والتبريرات والتفسيرات الأيديولوجية، فضلاً عن وقوع مواجهاتٍ بين طرفي الإسلام السياسي، في أكثر من مكان، مثل تونس وليبيا، بل وفي غزّة نفسها عندما اشتبكت حركة حماس في العام 2009 مع تنظيم أنصار جند الإسلام وقتلت زعيمه عبد اللطيف موسى.
في السياق نفسه، لم يضع “داعش”، بخلاف “القاعدة”، القضية الفلسطينية أولوية في خطابه الأيديولوجي، بل كان واضحاً، حتى بعد عملية طوفان الأقصى بأسبوع، فقد تحدّث المقال الافتتاحي لمجلة البيان بصورة واضحة عن أولوية قتال “الأنظمة المرتدّة” التي تعمل كجدران متقدّمة لحماية إسرائيل، بينما يساعد التنظيم الفلسطينيين عبر مهاجمة هذه الأنظمة.
يعتبر “داعش” إيران العدو رقم واحد، وأشدّ خطراً على العرب والمسلمين من العدو الخارجي
على الطرف المقابل، انخرط تنظيم داعش، منذ تأسيسه، بحروب طائفية هوياتية مع إيران وحلفائها في المنطقة (بخاصة في كل من العراق وسورية؛ وهو أمرٌ أثار خلافات أيديولوجية وسياسية شديدة بين قيادة التنظيم وتنظيم القاعدة الذي احتفظ بقناة خلفية مع طهران)، وهو يعتبر إيران العدو رقم واحد، وأشدّ خطراً على العرب والمسلمين من العدو الخارجي، لأنّه، وفق التبريرات الأيديولوجية له، يمكن مواجهة العدو الخارجي بالسلاح وبتحشيد المجتمعات العربية والمسلمة، لكن ما يعتبره التنظيم “خطراً صفوياً” يكمن في تهديد هوياتي وثقافي وصراع مجتمعي جوهري في بلدان عربية ومسلمة عديدة، بخاصة سورية والعراق، التي مثّلت المركز الرئيس لخلافة التنظيم في فترة سابقة. لم يتردّد التنظيم بالتذكير بهذه القاعدة، عندما هاجم مدينة كرمان؛ إذ ذكرت افتتاحية “النبأ” أنّ التفجير الانتحاري في كرمان كان ضرورياً من أجل تذكير المسلمين بأن إيران لا تزال عدوّاً للإسلام السني، وأنّ ما يهم التنظيم هو النتيجة العقائدية، وليس العسكرية لعملياته ونشاطه.
إذا كان هذا السبب الذي يفسّر استهداف إيران، فأين تقع عملية موسكو ضمن خريطة الأولويات الأيديولوجية والحركية للتنظيم؟ ثمّة ثلاثة مستويات رئيسية في الإجابة عن هذا السؤال المشروع: الأول، أنّ النشاط الأكبر الخارجي لشبكة داعش في الفترة الماضية يأتي عبر ما تسمّى ولاية خراسان في أفغانستان، وهي التي ترى المصادر والتقارير الأمنية الغربية أنّها تمثل اليوم الذراع الأكثر نشاطاً وخطورة في شبكة داعش، وتضم أفغاناً وعرباً وأعداداً كبيرة أيضاً من آسيا الوسطى والقوقاز، وقد أعلنت روسيا نفسها ودول أوروبية وآسيوية عديدة في الفترة الماضية أنّها أحبطت عشرات العمليات والخلايا الإرهابية التي كانت تخطّط لعمليات، حتى قبل عملية موسكو الناجحة أخيراً.
تنظيم داعش مرن من الناحيتين التكتيكية والعملياتية، ولديه قدرة على التكيف مشهودة، لذلك يعتمد لتنفيذ مخطّطاته وإيصال رسائله على ما هو متاح من موارد
الثاني، ثمة ثأر قديم – جديد بين تنظيم داعش، بخاصة الأجنحة الآسيوية والشيشانية فيه، والروس، منذ القتال في أفغانستان في الثمانينيات، ولاحقاً الحرب الشيشانية ثم التدخّل الروسي في سورية الذي أدّى إلى إنقاذ نظام الأسد من الانهيار في أكثر مراحل ضعفه. ومن المعروف حتى على الصعيد الاستراتيجي – التنظيمي، هنالك تحالفٌ بين العدوين الرئيسين، روسيا وإيران، للتنظيم في المنطقة، وهما بالنسبة له وعليه قد يكونان أشد خطراً من التهديد الإسرائيلي.
الثالث، ويرتبط بالإمكانات التشغيلية واللوجستية التي تمتلكها شبكة التنظيم في مختلف الدول والمجتمعات، فمعروف أنّه جرى الإعلان عن إحباط (واعتقال) خلايا ومؤيدين للتنظيم في أوروبا وآسيا، ويقوم التنظيم بعشرات العمليات في سورية والعراق، بينما من الواضح أنّ هنالك صعوبة شديدة في محاولة إيجاد ثغرات في مواجهة إسرائيل، وفي دول أخرى. وبخلاف مع ما يعتقده كثيرون، بالرغم من صلابته الأيديولوجية، التنظيم مرن من الناحيتين التكتيكية والعملياتية، ولديه قدرة على التكيف مشهودة، لذلك يعتمد لتنفيذ مخطّطاته وإيصال رسائله على ما هو متاح من موارد.
يبقى السؤال المهم عما إذا كانت العمليات أخيراً والنشاط الكبير بخاصة لجناح خراسان في شبكة داعش مؤشّراً إلى إمكانية عودة التنظيم وما مثّله من رعب في مختلف أنحاء العالم؟ الجواب أنّنا على الأغلب الأعم أمام إرهاصات موجة جديدة من الإرهاب والراديكالية التي ستجتاح العالم، وهي مرتبطة بالضرورة بقدرة هذه التنظيمات على الاستثمار بصورة فاعلة في الأحداث التراجيدية الخطيرة مثل غزّة، التي تساعد كثيراً على غزل نسيج رواية هذه التنظيمات عن العالم المتآمر والأنظمة العربية المتواطئة والمسلمين المستضعفين، وما هجوم موسكو وعشرات المحاولات الأخرى إلا إشارات إلى هذه الموجة.