رأي

نوبل للاقتصاد ٢٠٢٥.. التدمير الخلّاق

كتب أحمد حسين قنديل في صحيفة بوابة الأهرام.

في عالمٍ تتغير فيه التقنيات والوظائف أسرع من أي وقتٍ مضى، جاءت جائزة نوبل في الاقتصاد لعام ٢٠٢٥ لتُكِّرم الفكرة التي تفسر هذا التغيير: التدمير الخلّاق. مُنحت الجائزة هذا العام لثلاثةِ علماء هم جويل موكير، وفيليب أغيون، وبيتر هاويت، تَقْدِيرًا لإسهامهم في تطوير نظرية التدمير الخلّاق، وشرحهم الدقيق — بالنماذج والمعادلات — لكيفية تحوّل الابتكار إلى القوة المحركة للنمو الاقتصادي.

في عام ٢٠٠٨، كانت شركة بلاك بيري في ذروة مجدها، حتى إن باراك أوباما وقادة العالم كانوا من أبرز مستخدميها. لكن في العام نفسه، قدّمت آبل للعالم جهازًا جديدًا هو الآيفون، لا يكتفي بالمكالمات والبريد الإلكتروني، بل يضيف إليها تجربةَ اسْتِخْدَام مَذْهِلَةً وإمكاناتٍ غير مسبوقة. شَيْئًا فَشَيْئًا، مال السوق نحو المنتج الجديد، وفقدت بلاك بيري مكانتها حتى اختفت من المشهد. هذا مِثَالٌ حَيٌّ على التدمير الخلّاق الجزئي: الجديد يولد من رحم القديم؛ ابتكارٌ يزيح آخر، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام مَوْجَةٍ جَدِيدَةٍ من التقدّم.

مِثَالُ الآيفون الذي أزاح نوكيا وبلاك بيري ليس اسْتِثْنَاءً، بل نَمُوذَجٌ يتكرر في حياتنا اليومية. فالبريد الإلكتروني أزاح الفاكس، ونتفليكس أنهت عصر شرائط الفيديو، وأوبر غيّرت مفهوم سيارات الأجرة، والكاميرات الرقمية أطاحت بإمبراطورية كوداك. في كل مَوْجَةٍ من هذه الموجات، تختفي شركاتٌ وتُغلَق مصانع ويُسرَّح عمّال، لكن في المقابل تولد شركاتٌ جديدة، وتُفتَح مصانع أخرى، وتُخلق وظائف لم تكن موجودةً من قبل. وفي النهاية، يكسب المستهلك، ويكسب الاقتصاد أَيْضًا — لأن ما يُدمَّر في جانب يُعاد بناؤه أفضل منه في جَانِبٍ آخَر.

السؤال الذي تصدّى له أغيون وهاويت وموكير هو: متى يحدث هذا التدمير الخلّاق بِطَرِيقَةٍ صِحِّيَّةٍ؟ ومتى يتحوّل إلى فوضى أو ركود؟ ولماذا تزدهر بعض الدول بفضل الابتكار، بينما تتعثر أخرى رغم امتلاكها العقول والموارد؟

لقد أثبتوا رِيَاضِيًّا أن هناك “مِنْطَقَةً مُثْلَى” للمنافسة — لا هي ضعيفةٌ إلى حدّ الركود، ولا مُحْتَدِمَةٌ إلى حدّ اليأس. فإذا كانت المنافسة مَحْدُودَةً، يسود الاحتكار، ولن تجد الشركات حافزاً للابتكار. أما إذا كانت شَرِسَةً للغاية، فلن تجرؤ الشركات على الاستثمار في البحث والتطوير لأنها قد لا تسترد كلفة الابتكار. الابتكار إذن يحتاج إلى بِيئَةٍ وَسَطِيَّةٍ: قوانين تشجع دخول لاعبين جدد، وأسواق مفتوحة، وحماية حَقِيقِيَّةً للملكية الفكرية، وَرَأْسِ مَالٍ بشري، وتمويل يسمح بالمجازفة. وهنا يظهر دور الدولة، لا في حماية الشركات القديمة كما يحدث أَحْيَانًا، بل في تشجيع الأفكار الجديدة لتأخذ فُرْصَتَهَا في الظهور والنمو.

وقد أوضحت دراساتهم أن الدول التي تسمح بِدَوْرَاتٍ مُتَكَرِّرَةٍ من الخلق والتدمير — مثل كوريا الجنوبية والصين — تواصل النمو والتجدد. بينما تتعثر الدول التي تُجمّد أسواقها وتحمي الشركات القائمة، كما حدث في الأرجنتين مَثَلًا، حيث كان النجاح الاقتصادي يُكافأ بالاحتكار لا بالابتكار. بهذا المعنى، لا تُقاس صحة الاقتصاد فقط بمعدل النمو، بل بسرعة دوران عجلة الإبداع: كم شَرِكَةٍ جَدِيدَةٍ ظهرت؟ كم فِكْرَةٍ نجحت؟ وكم مَشْرُوعًا قديمًا غادر الساحة ليترك المجال لغيره؟

يقول جويل موكير: «التاريخ لا يتحرك بسلاسة، بل يقفز من ثَوْرَةٍ إلى أخرى». وطبقًا لطرحه، شهد العالم خمس مَوْجَاتٍ كُبْرَى من التدمير الخلّاق، أعادت كل وَاحِدَةٍ منها تشكيل الاقتصاد والمجتمع على نَحْوٍ جَذْرِيٍّ.

الموجة الأولى بدأت مع الثورة الصناعية بين عامي ١٧٧٠ و١٨٣٠، حين أطلق المحرّك البخاري شَرَارَةَ التحوّل من الزراعة إلى الصناعة، فظهرت المصانع والمدن الحديثة. أما الثانية فجاءت بين عامي ١٨٧٠ و١٩١٤، وكانت قوتها الخلّاقة الكهرباء، التي ولّدت شَرِكَاتٍ عِمْلَاقَةً مثل فورد وسيمنز، وفتحت عصر الإنتاج الواسع والتكلفة المنخفضة. 

ثم جاءت الثالثة، الثورة الرقمية بين عامي ١٩٧٠ و٢٠٠٠، التي قادها الحاسوب الشخصي والإنترنت، فظهرت مايكروسوفت وجوجل وأمازون وآبل، ودخل العالم مَرْحَلَةَ اقتصادِ المعرفة. أما الرابعة، فهي الاقتصاد المنصّاتي الذي تقوده شركاتٌ مثل آبل وميتا وأوبر، وقد غيّر وجه الإعلام والعمل، فهزَّ عروش الصحف الورقية والتلفاز التقليدي ومكان العمل الثابت. واليوم نعيش الموجة الخامسة التي بدأت عام ٢٠٢٣، وتقودها النماذج اللغوية الكبرى والذكاء الاصطناعي التوليدي — الموجة التي تؤذن بميلاد الاقتصاد المؤتمت، حيث يعمل الإنسان جنبًا إلى جنب مع الآلة في شَرَاكَةٍ جَدِيدَةٍ تعيد تعريف الإنتاج والإبداع مَعًا.

في السياق ذاته
بعد انتهائي من كتابة هذا المقال، سعدت بالاستماع إلى محاضرة المفكر الاقتصادي البارز ووزير التموين والعدالة الاجتماعية الأسبق الدكتور جودة عبد الخالق، التي ألقاها أمام الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية حول الموضوع ذاته. 

وقد أثارت ملاحظاته مَجْمُوعَةً من الأفكار الجديرة بالتأمل: أَوَّلاً: هل نملك الشجاعة لفتح الباب أمام التدمير الخلّاق؟ كَثِيرٌ من اقتصاداتنا وثقافاتنا لا تزال تخشى التغيير، فتحمي القديم وتقيّد الجديد. ثَانِيًا: ليس كل ما يلمع ذَهَبًا. فالتدمير الخلّاق في عصرنا الحالي لم يخلُ من سلبيات، أبرزها ظاهرة تغير المناخ وتفاقم الفوارق الاجتماعية. فالتقدّم لا يُقاس فقط بمعدّل الابتكار، بل بقدرته على تحقيق تَنْمِيَةٍ مُسْتَدَامَةٍ عَادِلَةٍ وَمُتَوَازِنَةٍ. ثَالِثًا: لكل ثَوْرَةٍ ضحاياها. فالثورة الصناعية مَثَلًا لم تكن متكافئةَ الفرص، إذ استفادت منها الدول الاستعمارية على حساب شُعُوبٍ أُخْرَى استُنزفت مواردها. وهنا أشار الدكتور محمود محيي الدين، وزير الاستثمار الأسبق، إلى أهمية الاستثمار في الإنسان، مؤكداً أن مفهوم التدمير الخلّاق لا يعني محو القديم بالكامل كما يظن البعض، بل بقاء الأفضل والتحوّل للأصلح، على نَحْوٍ يذكّرنا بنظرية داروين في التطور.

ويبقى الموضوع الأهم الذي طرحه د. جودة: الإبداع يحتاج بِنْيَةً أَسَاسِيَّةً من رَأْسِ مَالٍ بشري، واستثمارٍ في البحث العلمي، وَقَوَاعِدَ مُنَظَّمَة، وَمُنَافَسَةٍ عَادِلَة، وبيئةٍ تشجّع على التجريب والمجازفة، وَثَقَافَةٍ لا تخشى التغيير.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى