رأي

«نوبل» تخيّب ترامب… لا الإمبراطورية

كتب سعيد محمد, في الأخبار:

لم تُمنح «نوبل» سلام هذا العام، للإمبراطور دونالد ترامب، لكنها بقيت في فلكه، بعدما تُوّجت بها زعيمة المعارضة اليمينية في فنزويلا، التي تدعمها الولايات المتحدة

أفلتت جائزة «نوبل» للسلام من يد دونالد ترامب، لكنها لم تخرج من فلكه تماماً؛ إذ مُنحت للسيدة التي يطمح إلى تتويجها زعيمةً في كاراكاس، في حين كشف سَعْي ترامب الحثيث والمُعلَن لنيل الجائزة، ليس عن هوس نرجسي شخصي فحسب، وإنّما أيضاً عن الغايات التي يطمح إلى تحقيقها من خلال حصوله على الجائزة المرموقة – الملتبسة.

رأس المال السياسي للجائزة
قبل الخوض في حالة ترامب تحديداً، من الضروري فهم ما تمثّله جائزة «نوبل» للسلام، من حيث الرمزية والشرعية الدولية. فحين تُمنح هذه الجائزة لشخص، أو جهة، فإنها تَمنحه/ا مصادقةً من هيئة دولية (لجنة نوبل النرويجية)، تُنسب اسميّاً إلى ألفريد نوبل. وهي ليست قراراً قضائياً، بل تكريم رمزي يعكس ما تعتبره اللجنة «مساهمة في السلام»، الذي يُعرَّف دائماً ضمن أفق التصوّرات الغربية عن النظام الدولي والقيم العالمية والتوافقات النخبوية (الديمقراطية النيوليبرالية، حقوق الإنسان، اقتصاد السوق). وبالتالي، فإن كل مَن يطالب بها أو يحوزها، يخوض معركةً لا تدور حول الأداء الملموس، وإنّما حول موقعه في «حقل الشرعية الدولية»، الذي تسيطر عليه حصراً القوى الغربية.

وعليه، فإن جائزة «نوبل» من هذا المنظور، ليست تكريماً أخلاقيّاً مستنداً إلى مبادئ سامية، بقدْر ما هي أداة ضمن منظومة الهيمنة الثقافية، تُستخدم لتثبيت رؤية محدّدة إلى العالم؛ وتُمنح كغطاء معنوي لِمن يخدم المصالح الرأسمالية والنظام الدولي القائم. و»السلام» في هذا السياق، لا يعني وقف العنف الهيكلي أو استغلال الإمبريالية، وإنّما يُقصد به غالباً إدارة النزاعات بأساليب لا تزعزع أسس النظام العالمي.

دوافع ترامب: مزيج من الشخصي والسياسي
لدى تتبُّع تصريحات ترامب وسياسته الخارجية، يمكن رصد دوافع متعدّدة للسعي نحو حيازة الجائزة، لعلّ أولها شعور الذات المتضخّمة لدى الرئيس، بأنه «يستحقّ» جائزة «نوبل»، مقارنة بباراك أوباما الذي نالها في عام 2009. فالتحاقه بنادي القادة المُميّزين على خريطة «السلام الدولي»، يمنحه بطاقة رمزية تُعزّز «ماركته» بوصفه لاعباً يحظى بالاحترام الدولي، وهو ما يفتقر إليه غالباً بسبب سياساته الشعبوية وأسلوبه الصدامي.

على أن للجائزة منفعة عملية في إطار الصراع السياسي الداخلي للولايات المتحدة أيضاً، إذ كان يُمكن ترامب توظيفها لتقوية موقفه بين أنصاره، وتصوير نفسه كرجل دولة يحقّق إنجازات على الساحة الدولية، وهو ما يُعدّ مفيداً في حملاته الانتخابية وفي دفاعه عن سياساته الداخلية والخارجية.

ولكي يمنح مطلبه مظهراً واقعيّاً، احتاج ترامب إلى «إنجازات» يمكن تسويقها، من مثل «اتفاقات أبراهام»، أو وساطته المزعومة في صراعات أخرى؛ فادّعى أنه أنهى «سبع حروب»، وهي عبارة يردّدها باستمرار، كبرهان على أهليّته. لكن كثيراً من هذه الادّعاءات كانت محلّ تشكيك لدى المراقبين الذين رأوا في خلفيتها «صفقات تجارية/ سياسية» عابرة، تحت ضغوط متهوّرة، أكثر من كونها سعياً حقيقيّاً نحو سلام شامل. كما أن توقيت إعلانه عن خطّته لإنهاء الحرب في غزة، على سبيل المثال، تزامن بشكل لافت مع اقتراب موعد إعلان الجائزة، ما أثار شكوكاً حول دوافعه الحقيقية، ولا سيما أنه تجنّب توضيح تفاصيل «اليوم التالي».

ولدى النظر إلى سجلّ الفائزين بالجائزة، منذ منتصف القرن العشرين، يمكن لحظ أن كثيرين منهم كانوا بدورهم شخصيات مثيرة للجدل، أو أدوات ضمن مشروع النفوذ الغربي. ويكفي أن نتذكّر القائمة الطويلة من مجرمي الحرب والإرهابيين المعتّقين الذين تُوّجوا بها، من هنري كيسنجر ومناحيم بيغن، وإسحاق رابين وشمعون بيريز إلى باراك أوباما وأون سان سو تشي. والأول، أي كيسنجر، الذي كان مهندس سياسات دموية في فيتنام وكمبوديا وأميركا اللاتينية، مثّل تتويجه بالجائزة عام 1973، غطاء أخلاقياً لسياسات «السلام عبر مطلق القوّة» التي خدمت المصالح الإمبرياليّة الأميركية خلال تلك المرحلة.

وعليه، فإن السلام الذي تروّج له «نوبل» ليس السلام الذي يقضي على هياكل الاستغلال، بل ذلك الذي يضمن استمرارية الاستغلال الهادئ والتبادل التجاري غير المتكافئ. وترامب، بادّعائه أنه صانع سلام، يسجّل لنفسه مكانة ضمن هذه المعادلة؛ فهو لا يعمل على إعادة هيكلة النظام، بل على إدارة نزاعاته بما يكرّس النفوذ الأميركي وحماية مصالح رأس المال. وكان من شأن الجائزة أن تسبغ عليه مسحة من غلاف أخلاقي عنوانه: «أنا لست مجرّد جبروت عسكريّ، بل أعمل من أجل السلام».

أما فوز زعيمة المعارضة الفنزويلية، ماريا كورينا ماتشادو، بنسخة الجائزة لعام 2025، فيأتي ليؤكد هذا النهج ويكرّس دور «نوبل للسلام» كأداة سياسية في خدمة الأجندة الغربية. فبينما قُدّمت الفائزة باعتبارها مناضلة شجاعة من أجل «الديمقراطية وحقوق الإنسان»، يُنظر إلى هذا التكريم بوصفه تتويجاً لسياسة ممنهجة في دعم الشخصيات الموالية للمصالح الأميركية في أميركا اللاتينية. فماتشادو، التي تدور في فلك الاستخبارات الأميركية وتُعتبر واجهة اليمين المحافظ في فنزويلا، لعبت دوراً محوريّاً في الحرب السياسية المستمرّة ضدّ النظام التشافيزي منذ عهد هوغو تشافيز.

وقد تلقّت حركتها دعماً مالياً وسياسياً أميركياً واضحاً عبر قنوات من مثل «الصندوق الوطني للديمقراطية» (NED)، الذي يُعتبر واجهة للسياسة الخارجية الأميركية لتمويل حركات المعارضة حول العالم.
لذا، فإن منحها الجائزة يُقرأ كرسالة دعم سياسية مباشرة من المركز الغربي لحلفائه في «الفناء الخلفي» للولايات المتحدة، ومحاولة لمنح شرعية دولية لمحاولات تغيير النظام المُنتخب في فنزويلا، والتي ترعاها واشنطن منذ ربع قرن.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى