رأي

نمط الإنتاج والعقوبات الاقتصادية

كتب الصحافي عماد الحطبة في ” الميادين نت”:

لوهلة من الزمن، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، حاولت الرأسمالية إقناعنا أن زمن الحروب انتهى، وأن حل النزاعات الدولية سيكون بيد المجتمع الدولي ممثَّلاً بالأمم المتحدة.

يبدو العنوان ملتبساً بعض الشيء، فالحديث عن نمط الإنتاج في مجتمع معيّن موضوع معقّد ذو أبعاد فلسفية لا يناسب المقالات الصحافية. أما العقوبات الاقتصادية كما نعرفها اليوم، فهي مجموعة من الإجراءات الاقتصادية التي تُفرض على دولة معينة لأسباب سياسية. 

أشهر هذه العقوبات في زمننا الحالي تلك المفروضة على كوبا وإيران وسوريا وفنزويلا وقبلها طبعاً العقوبات على العراق. أما أشهر العقوبات تاريخياً فهي تلك التي فرضها النظام الرأسمالي على الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية والتي عرفت بالستارة الحديدية. 

تميّزت العقوبات على الاتحاد السوفياتي بأنها كانت على قاعدة أيديولوجية، في إطار الصراع بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، أما العقوبات الحديثة فهي مبنية على محاولة النظام الرأسمالي منع الشعوب والدول من التمرّد على هيمنة النظام، وقمع محاولة هذه الشعوب شقّ طريقها الاقتصادي والسيادي (حتى لو كان رأسمالياً) بعيداً عن هيمنة النظام الرأسمالي السائد.

لوهلة من الزمن، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، حاولت الرأسمالية إقناعنا أن زمن الحروب انتهى، وأن حل النزاعات الدولية سيكون بيد المجتمع الدولي ممثَّلاً بالأمم المتحدة، وبالعقوبات الاقتصادية الدولية على الدول “المارقة”. لم تلبث الرأسمالية أن أرسلت قواتها إلى يوغسلافيا لتشنّ حرباً ارتكبت فيها أبشع المجازر تحت عيون قوات حلف الناتو، وتورّطت هيئات الأمم المتحدة بكل أنواع الفساد والممارسات اللاإنسانية من عمالة الأطفال حتى الاتجار بالبشر.

في العراق تعلّمنا أن العقوبات تعني ارتكاب المجازر من دون سلاح، موت مئات الآلاف نتيجة الحرمان من الغذاء والدواء، وتدمير البنى التحتية وتحوّل الدولة إلى دولة فاشلة، ثم الانقضاض عليها واحتلالها وتقسيمها. تكرّر الدرس في ليبيا، وفي سوريا التي حرمها الناتو من الدواء حتى المطاعيم المتعلّقة بأمراض مثل الكورونا والكوليرا، ناهيك عن الغذاء واحتلال منابع النفط ليموت الناس مرضاً أو جوعاً أو برداً. وتبقى اليوم التي تصنّفها الأمم المتحدة على مدى السنوات الأربع الماضية كأكبر مأساة إنسانية في العالم، تبقى وصمة عار على جبين البشرية جمعاء.

وجدت الدول الرأسمالية نفسها ملتزمة بنظام العقوبات الأميركي قسراً، لكونها جزءاً من بنية النظام الرأسمالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. ينطبق الأمر إلى حد معين على الصين التي تمثّل أسواق أميركا الشمالية وأوروبا السوق الأساسي لمنتجاتها، يبقى السؤال حول التزام الدول النامية بما فيها الدول العربية بالعقوبات على الرغم من هامشية اقتصاداتها مقارنة بحجم الاقتصاد الرأسمالي، خاصة إذا استثنينا النفط الذي أثبتت الأزمة الأوكرانية أن الاقتصاد الرأسمالي غير قادر على الاستغناء عنه، حتى لو لم تلتزم الدول المنتجة للنفط بالعقوبات الأطلسية على روسيا.

يمكن أن نجد الإجابة لدى المفكّر اللبناني مهدي عامل، الذي رسم شكل العلاقة ما بين اقتصاديات الدول التابعة والمركز الرأسمالي فيما أسماه “النمط الكولونيالي للإنتاج”، وهو نمط قائم على التبعية الاقتصادية للمركز الرأسمالي، وهي تبعية تتجاوز الأنظمة، لتصل إلى البنى الاقتصادية والاجتماعية المحلية. لقد أعاق هذا النمط نمو الاقتصاد المحلي وتطوّره نحو أنماط أرقى لأنّ هذا التطوّر يتناقض مع مصالحه كونه يعمل سمساراً للشركات والمصالح الرأسمالية. 

هذه التبعية تقوم على بنى اقتصادية محلية مرتبطة بشركات ومؤسسات متعددة الجنسيات، وهي تتجاوز حتى الحكومات المحلية في بلدانها. لقد تعاظمت قوة هذه الطبقة التابعة من خلال منظومة القوانين والمؤسسات الاقتصادية العالمية مثل منظمة التجارة الدولية، وقوانين حماية الملكية الفكرية الدولية.

الدور الرئيس لهذه البنية التابعة التي تشمل الصناعة، والزراعة، وكبار الملّاكين العقاريين والبنوك وشركات التأمين، ضمنت تحويل الجزء الأكبر من فائض القيمة المحلي إلى خزائن المركز الرأسمالي، ومنع تراكم هذا الفائض في الاقتصادات المحلية بحيث يتحوّل إلى أداة للنمو أو التنمية. للدلالة على حجم العائد الذي يحقّقه المركز الرأسمالي من هذه التبعية، يمكننا أخذ تجربة قطاع البنوك في دولة ذات اقتصاد متواضع مثل الأردن، والتي تقع في المركز الـ 12 عربياً والمركز الـ 87 عالمياً. 

بحسب البيانات المنشورة من البنك المركزي الأردني يبلغ حجم الديون على المواطنين للبنوك المحلية 40 مليار دينار، وهو ما يعادل 52 مليار دولار. قامت البنوك الأردنية برفع نسبة الفائدة عدة مرات خلال سنة، في مجاراة لقرار الاحتياطي الفدرالي الأميركي، وبلغ إجمالي رفع نسبة الفائدة 4%. انعكس هذا الرفع على أرباح البنوك التي ازدادت بنسبة 35% خلال عام 2022، وحقّقا إجمالي ربح بلغ 898 مليون دينار. 

إذا علمنا أن حصة رأس المال الأجنبي في البنوك المحلية تبلغ ما بين 53 – 55% فإن العائد الذي سيتحقّق لرأس المال الأجنبي من قطاع واحد، في بلد صغير يبلغ نحو 476 مليون دينار أي ما يعادل 618 مليون دولار. هل يمكننا تخيّل حجم العائد الذي يحقّقه المركز الرأسمالي من مجمل النشاط الاقتصادي في الأردن أو في العالم العربي؟

الحديث عن المساعدات الغربية كسبب للتبعية، فيه الكثير من الابتعاد عن الحقيقة، ففي المثل الأردني نفسه بلغت المساعدات الغربية والعربية في ميزانية 2023 مبلغاً لم يتجاوز 600 مليون دينار. التبعية مرتبطة بالبنى الاقتصادية والاجتماعية السائدة التي تفرض شروطها على أي بنية سياسية قائمة أو تسعى للوصول إلى الحكم. في حال تمرّد البنى السياسية على نظام التبعية فالمثل العراقي والليبي والسوري والإيراني جاهز، بما في ذلك اللجوء إلى القوة الغاشمة.

إن هذا التحليل يضع على عاتق قوى المقاومة عبئاً نضالياً جديداً، لكنه العبء الحقيقي إذا أردنا تحويل انتصاراتنا في الميدان إلى إنجازات تنعكس على سيادتنا في شتى المجالات. مسؤوليتنا ليست كسر الحصار عن سوريا فقط، فقبله ناضلنا لكسر الحصار عن العراق وعن ليبيا وحتى عن مصر أيام الرئيس جمال عبد الناصر، مهمتنا النضالية الأولى هي كسر التبعية للمركز الرأسمالي التي تجعل دولنا ومؤسساتنا أداة بيد العدو يطبق من خلالها حصاره وعقوباته.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى